لـ رياض الشهري
هل يموت المبدعون فقراء؟
بدأ هذا التساؤل في ذهني عندما شاركت في لقاء يربط كتاب أدب الأطفال، و كان اللقاء يريد أن يساعد هؤلاء الكتاب المبدعين على تحويل إبداعهم إلى مصدر دخل، عندما انتهى اللقاء وإذا بي أفكر لماذا الكثير من المبدعين عاشوا حياةً صعبةً للغاية ولم يفِ إبداعه بلقمة عيشه؟ هل لعنة الإبداع هي الفقر المدقع؟ هل يستطيع المجتمع أن يساهم لينقذ المبدع؟ بل السؤال هل الابداع يستدعي أن نبذل جهدًا لتبنيه والاهتمام بأبنائه؟
الإبداع وحقيقة القيمة؟
كان السؤال الأهم هو هل الإبداع يستحق أن نبذل جهدًا في تبنيه و الصرف عليه والاهتمام بالمبدعين؟ بدأت البحث عن أثر الإبداع ومتى بدأ؟
تمت الإشارة إلى الاقتصاد الإبداعي لأول مرة باعتباره نظامًا مستقلاً في الاقتصاد في الستينيات ولكن لم يكن بذلك الاهمية. حتى عام (2001)، أعاد جون هوكينز إحياء هذا المصطلح في كتابه «الاقتصاد الإبداعي: كيف يكسب الناس المال من الأفكار؟». يساهم الاقتصاد الإبداعي بما يزيد قليلاً عن (6.1%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، تدر صناعات الاقتصاد الإبداعي إيرادات سنوية تزيد عن (2) تريليون دولار وتوفر ما يقرب من (50) مليون فرصة عمل في جميع أنحاء العالم. حوالي نصف هؤلاء العمال هم من النساء، وتوظف هذه الصناعات عددًا أكبر من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين (15) و(29) عامًا مقارنةً بأي قطاع آخر.
و عندما نتحدث عن (6.1%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتوظيف (50) مليون شخص، فنحن نتحدث عن أمر له تأثير عظيم على العالم أجمع، فأين يكمن التحدي في الاهتمام بالمبدعين وتعزيز البيئة لدعم الإبداع ومساعدة المبدعين لعيش حياة كريمة تسهم في ازدهار أعمالهم الابداعية وتطويرها وتعزيز الأثر.
هل يموت المبدعون فقراء؟
في عالم الموسيقى و الفن هناك العديد من الأمثلة على المبدعين الذين لم يحظوا بالتقدير والاعتراف في حياتهم، وماتوا في ظروف مأساوية ومحزنة. من بين هؤلاء المبدع الموسيقي النمساوي موزارت والرسام الهولندي فان جوخ.
موزارت هو مؤلف موسيقي نمساوي عاش في القرن الثامن عشر، وهو أحد أعظم الموسيقيين في التاريخ. ألف أكثر من (600) عمل موسيقي، بأسلوب رائع ومبتكر. لكنه لم يحصل على دعم كاف من النبلاء والأمراء، وعانى من الديون والمرض. توفي في فقر مدقع عام (1791) عن عمر (35) سنة.
فان جوخ هو رسام هولندي عاش في القرن التاسع عشر، وهو أحد أشهر الفنانين في التاريخ. رسم أكثر من (2000) لوحة ، في غضون عشر سنوات فقط. لكنه لم يبع سوى لوحة واحدة في حياته، وعانى من الفقر والجوع والجنون وأطلق النار على نفسه في صدره عام (1890)، عن عمر (37) سنة.
يقع المبدع عادةً في تحدي أن يموت بالجوع إذا اعتمد على ابداعه ليكون مصدر دخله و قد يقوم بقتل إبداعه بيده عندما يقرر الركض خلف لقمة العيش. وهذا يجعلنا نفكر كثيرًا في هذا التحدي الخطير والمقلق لأننا خسرنا مبدعًا كانت أولويته هي عيش حياة كريمة وترك الإبداع الذي يجعله يعيش حياة صعبة، وكم ظلمنا مبدعًا كان وفيًا لإبداعه وعاش فقيرًا ومات مديونًا.
غالبًا ما يُنظر إلى الإبداع على أنه سمة قيمة يمكن أن تؤدي إلى الابتكار وحل المشكلات والتعبير الفني. ومع ذلك، هل يعني الإبداع أيضًا أن يكون محكومًا عليك بحياة الفقر والكفاح؟ هل هناك مقايضة بين متابعة شغف المرء وتحقيق الأمن المالي؟
الإبداع يحفز الفقر أم العكس؟
قد يفترض المرء أن المبدعين هم أكثر عرضة للفقر لأنهم يواجهون المزيد من الحواجز والتحديات في حياتهم، قد يتعين على المبدعين التعامل مع عدم الاعتراف والدعم من المجتمع والأقران والمؤسسات وصعوبة العثور على وظائف مستقرة وذات أجر جيد تتناسب مع مهاراتهم واهتماماتهم وخطر الفشل والرفض والنقد والتوتر والقلق والاكتئاب.
يمكن لهذه العوامل أن تجعل من الصعب على المبدعين الحفاظ على أنفسهم وتحقيق أهدافهم، خاصة في عالم يقدر أن تكون ممتثلًا وكفؤً ومنتجًا على أن تكون أصيلًا ومتنوعًا ومبدعًا.
ومع ذلك، فإن الإبداع لا يعني بالضرورة أن تكون فقيرًا. في الواقع، يمكن أن يكون الإبداع أيضًا مصدرًا للقوة والفرص للأشخاص الذين يعيشون في فقر أو يواجهون مساوئ أخرى. على سبيل المثال، يمكن للإبداع أن يساعد الناس على التكيف مع الظروف المتغيرة والصعبة، وكذلك إيجاد طرق جديدة، وأفضل لحل المشاكل وتلبية الاحتياجات هو توليد الدخل والقيمة من مواهبهم ومواردهم، وتمكين أنفسهم ومجتمعاتهم، وإلهام الآخرين والتأثير عليهم.
ويمكن لهذه الفوائد أن تُحدث فرقًا في تحسين حياة ورفاه الملايين من الناس، ليس فقط في العالم المتقدم النمو، ولكن أيضًا في العالم النامي، حيث تكون التحديات المتصلة بالفقر أكثر انتشارا والحاحًا.
لماذا ينبغي أن نحتفي بالمبدعين؟
الشعوب العظيمة والأمم المتقدمة تسارع إلى الاحتفاء بمبدعيها و هم أحياء اعترافًا منهم بمكانة الابداع السامية، و قدراته الكبيرة في إحداث تغيير هائل في خدمة الإنسان، إن تكريم المبدعين و هم أحياء هو عظيم الكرم و قمة الرقي المجتمعي ووقفة نبل ووفاء تجاه الأشخاص الذين قضوا آلاف الساعات ليجعلوا حياتنا أجمل وأرحب وأكثر يسر وسهولة.
العالم مليء بالإبداعات المذهلة، من العجائب الطبيعية للأرض إلى الاختراعات البشرية في العصر الحديث. وراء كل إبداع، هناك مبدع، شخص أو مجموعة من الأشخاص لديهم رؤية وشغف ومهارة لإحضار شيء جديد إلى الوجود. يستحق هؤلاء المبدعون احتفالنا وتقديرنا وتكريمنا، لأنهم أغنوا حياتنا بأعمالهم.
المبدعون في العالم هم الذين دفعوا حدود ما هو ممكن، فتحدوا الوضع الراهن، وحلوا المشاكل التي نواجهها. وهبونا الجمال والفرح والمعرفة والراحة. لقد ألهمونا للحلم والتعلم والإبداع بأنفسنا. لقد أظهروا لنا قوة الإمكانات البشرية وتنوع التعبير البشري.
الاحتفال بمبدعي العالم هو وسيلة لتكريم إنجازاتهم ومساهماتهم وإرثهم. ووسيلة للاعتراف بعملهم الشاق وصبرهم وشجاعتهم، وكذلك لإظهار الامتنان والإعجاب والاحترام، والاتصال بقصصهم وقيمهم ورؤيتهم.
نموذج العطايا المؤقتة
عندما كنت أبحثُ عن حالة تعاطي المجتمعات مع المبدعين وجدتُ حالةً تحدث عنها «عبد الله المديفر» في مقال بعنوان «هل يموت المبدعون جوعًا؟»
حيث جاء في المقال «وهي “الشرهات” التي قد يتلقاها بعض المبدعين تعبر عن ثقافة سيئة لأنها لا ترتقي لمفهوم التبني المستدام للموهبة، إن ثقافة التكريم للمبدعين -والتي غالباً ما تأتي بعد فوات الأوان على طريقة “أذكروا محاسن موتاكم”- ليست هي الطريقة الصحيحة لتبني فكر الإبداع، والفقر بقوته الحديدية يكسر الدروع الزجاجية التي يستلمها المبدعون المعدمون على منصات التكريم، وحتى نحافظ على الإبداع يجب أن نحافظ على الحياة الكريمة للمبدعين».
هذه الحالة من العطاءات اليتيمة التي تشكل معضلة أكثر من كونها حل يساعد المبدعين بل أنها أقرب ما تكون بجوائز اليانصيب التي تجعل حياة الشخص بعد الحصول عليها أكثر سوءًا مما هي عليه قبل ذلك.
الأوقاف ومصارف الابداع
الأوقاف هي أحد أعظم المنتجات المالية الاسلامية التي ليس لنا نصيب كبير في تطويرها وهي «حبس الأصل عن تمليكها لأحد والتصدق بالمنفعة على مصرف مباح» مثل دعم البحث أو التعليم أو الصدقات أو الأيتام أو الأسباب الاجتماعية. ويمكن أن تكون الأوقاف مصدرًا للتمويل الطويل الأجل والاستقرار للمستفيدين، لأنها عادة ما تدر دخلًا من الاستثمارات ولا تنفق سوى جزءًا من العائدات، مع الحفاظ على المبلغ الأصلي. يمكن أن تكون الأوقاف أيضًا وسيلة للتعبير عن قيم ورؤية الموقفين الذين غالبًا ما يكون لهم رأي في كيفية استخدام الأموال وإدارتها.
أحد القطاعات التي يمكن أن تستفيد من الأوقاف هو الاقتصاد الإبداعي، الذي يشمل الأنشطة والصناعات التي تقوم على الإبداع والثقافة والابتكار. إذ يعد الاقتصاد الإبداعي أحد أسرع القطاعات نموًا في العالم، حيث ذكرنا من قبل أنه يساهم بما يزيد قليلًا عن (6.1%) من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ويوظف حوالي (50)مليون شخص في جميع أنحاء العالم. كما أن للاقتصاد الإبداعي أثرًا إيجابيًا على الجوانب الاجتماعية والبيئية، مثل تعزيز التنوع والإدماج والتسامح والوعي.
ومع ذلك، يواجه الاقتصاد الإبداعي العديد من التحديات، مثل نقص البيانات والاعتراف والتنظيم والدعم. ومع التحديات الاقتصادية المختلفة يظهر ضعف وهشاشة القطاع الإبداعي، الذي يعتمد بشكل كبير على الأماكن والأحداث والتجارب المشتركة. لقد فقد العديد من العمال المبدعين والمؤسسات دخلهم وسبل عيشهم، وكافح العديد من المؤسسات والمنظمات الثقافية من أجل البقاء والتكيف.
ويمكن للأوقاف أن تؤدي دورًا حيويًا في دعم الاقتصاد الإبداعي، لا سيما في بلداننا النامية والبلدان التي تمر اقتصاداتها بمرحلة انتقالية، حيث غالبًا ما يعاني القطاع الإبداعي من نقص في التمويل والتقليل من قيمته. ويمكن للأوقاف أن توفر تمويلًا مستقرًا ومرنًا للمشاريع والمبادرات الإبداعية، فضلًا عن بناء القدرات، والبحوث، والدعوة، ووضع السياسات. يمكن للأوقاف أيضًا أن تعزز التعاون والابتكار بين مختلف أصحاب المصلحة، مثل الحكومات والقطاع الخاص و القطاع الخيري والأوساط الأكاديمية.
بعض الأمثلة على الأوقاف التي تدعم الاقتصاد الإبداعي:
– مؤسسة فورد، التي لديها هبة قدرها (14) مليار دولار وتدعم العديد من المبادرات الإبداعية والثقافية في جميع أنحاء العالم، مثل معهد صندانس والصندوق الثقافي الأفريقي ومؤسسة رأس المال الإبداعي.
– صندوق الآغا خان للثقافة، الذي تبلغ قيمته (1.5) مليار دولار ويدعم الحفاظ على التراث الثقافي وتنشيطه، وكذلك تعزيز الإبداع المعاصر في المجتمعات الإسلامية وخارجها.
– صندوق الأمير كلوز، الذي يملك (200) مليون يورو ويدعم التعبير الثقافي والتبادل الثقافي في المناطق التي تكون فيها الموارد والفرص محدودة، ولا سيما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
الأوقاف يمكن أن تكون أداة قوية للنهوض بالاقتصاد الإبداعي ومساهمته في التنمية المستدامة. ومع ذلك، تتطلب الأوقاف أيضًا الإدارة الدقيقة والحوكمة والمساءلة، لضمان ملاءمتها مع احتياجات وتطلعات القطاع الإبداعي والمجتمع ككل. كما يلزم استكمال الأوقاف بمصادر أخرى للتمويل والدعم، مثل السياسات العامة والاستثمارات الخاصة والتمويل الجماعي. لا يمكن للأوقاف وحدها أن تحل تحديات الاقتصاد الإبداعي، لكنها يمكن أن تكون جزءًا من الحل.
وختامًا الإبداع ليس نقمة أو نعمة، ولكنه احتمال يمكن تسخيره لصنع أثر عظيم. فليس على المبدعين أن يموتوا فقراء، ولا عليهم المساس بقيمهم ورؤاهم من أجل المال. يمكن أن يكون الإبداع حافزًا للتغيير، وقوة للخير، ومصدرًا للفرح والإنجاز. يتمثل التحدي في إيجاد التوازن الصحيح بين السعي وراء شغف المرء وتحقيق أهدافه، وتهيئة بيئة داعمة وتمكينية للازدهار الإبداعي والابتكار وينبغي على المجتمعات والحكومات والقطاع الخاص والخيري في البلدان المراهنة على أبنائه المبدعين لصنع تغيير عظيم بتكاتف الجهود.