لـ شهد المطرفي
«سأصنع الفرص والأحلام والأهداف والأماني
مازلت حيًا في مكان ما، وأعرف ما أريد
سأكون يومًا ما أريد»
كلمات كتبها درويش لنفسه، أُرددها اليوم وكأنها حبل نجاتي الوحيدة، فبعد أن طفيتُ كثيرًا وطويلًا على سطح المعنى، أصبحتُ أُدرك العمق وأصطاده حينما أراه، ليس مثل صياد ماهر مارس الصيد منذ نعومة أظفاره ولكن لا بأس فأنا أُمسكه أضعاف لا توازي مرات ما تركته.
أتساءل عما كنتُ أبحث عنه من معنىً دائم ولا تفتأ عينايّ عن اللحاق به؟ ما أهميته لنا كبشر حتى أصبحتُ أقضي ست ساعات وتسعة وأربعين دقيقة وخمسين ثانية كل يوم في سبيل مطاردته ومحاولة الإمساك به؟
لا أظن أننا نستطيع العيش دون معنىً حتى وإن أنكرناه وقد أصبح وجوده ينعكس على كل ما حولنا وما يشكلنا، بدءًا بالهوية التي نعرّف أنفسنا بها مرورًا للتعابير اليومية التي نستخدمها لنعبر عن مبررات سلوكنا ومشاعرنا وأبرزها مفردة «أحس» التي أصبحت تسبق كل بداية حكاية أو فضفضة.
وينتهي المعنى في لحظة المحاسبة اليومية على سريرنا الوثير، فبينما نحاول الاستغراق في النوم، نبدأ بمراجعة أحداث يومنا واليوم الذي قبله ويومًا آخر كان قبل سنة من الآن، محاولين إيجاد المعنى حتى وإن لم ندرك ذلك، لكن هل بحثنا المستمر غير الواعي عن المعنى هو بسبب افتقادنا له؟ أم أنه بحث قادم من أساس فطرتنا كبشر؟
في كتاب «الإنسان والبحث عن المعنى» للكاتب والدكتور النفسي فيكتور فرانكل ذكر أن أول سؤال كان يسأله للمرضى الذين كانوا قد عانوا من عذابات قاسية ومؤلمة هو «لماذا لم تنتحر بعد؟» ليس لتشجيعهم على الانتحار، إنما محاولة منه إيجاد المعنى الذي دفعهم للعيش والاستمرار في الحياة رغم صعوبتها ورغم كل ما يواجههم من مشقة عند كل استيقاظ وعند كل خلود. وقد كان هو أول طبيب نفسي يحاول علاج مرضاه بالمعنى، لا لتجربة منهج بحثي جديد للعلاج، ولكن لأنه كان يومًا في مكانهم يواجه الموت متمرغًا في الفقد والخذلان والألم إلى أن تاقت نفسه لإيجاد المعنى الذي أنقذه بعد حين.
ويركز فرانكل في كتابه «الإنسان والبحث عن المعنى» على ثلاثة مبادئ أساسية أولها إرادة المعنى ومنتصفها الإحباط الوجودي وآخرها الفراغ الوجودي الذي يتمثل في الملل ومنه يبدأ الإنسان بتعويض إرادة المعنى المحبطة بإرادة جديدة سماها القوة، ويذكر أيضًا الطرق التي قد تمكنك من اكتشاف المعنى في الحياة، فأنت تبدأ بالإنجاز وتنتصف باختبارك شعوريًا لقيمة من القيم الوجدانية كالحب وتنتهي بالمعاناة، لكن أين المعنى الذي قد يجده الإنسان في معاناته؟ أم أننا لا نبحث إلا عما يشقينا؟
المفارقة أن الإنسان قد يجد فعلًا معناه الذي يبحث عنه في عز وشدة المعاناة، فمثلًا إليزابيث جيلبرت في سيرتها الذاتية «طعام صلاة حب» كانت تعيش اكتئابًا حادًا وانفصالًا سيئًا وإفلاسًا تامًا، أي قعر المعاناة قياسًا بمعاييرنا اليوم، ولكنها مع ذلك حاولتْ إيجاد المعنى، بدءًا برحلةٍ إلى بلد اللذة (إيطاليا) كما تصفه وتعلمها اللغة الإيطالية، إلى ذهابها لبالي وعودة انتكاستها التي ظنتْ أنها انتهتْ، لكن كان خفيًا عليها أن المعاناة كما لم تبدأ بين ليلة وضحاها فلا يمكن أن تنتهي بين ليلة وضحاها، بل هي عملية تشافي مستمرة مليئة الانتكاسات والعراقيل التي قد تزيد من صعوبة الرحلة ولكنها لن تمنع وصولها، فقد راهنت إليزابيث على نفسها عندما وعدت الناشر بكتاب جديد لتستلم الدفعة المقدمة التي تمكنها من السفر، ورغم عدم تأكيدها مما إذا كانت ستتم الكتاب أو لا، لكنها جازفتْ وربحتْ، ليصبح «طعام صلاة حب» من الأكثر مبيعًا ليومنا هذا وازدهر فيه عصر إليزابيث ككاتبة تكتب بالمعنى بينما تفتقر كل كتب السطح إليه.
قدرتنا على إيجاد المعنى هي من تحصننا ضد السقوط في الفراغ الوجودي الذي امتد به عالمنا اليوم، حتى أصبح وجودنا يحتمل العديد من المعاني التي نعجز عن إدراكها واللحاق بها، وكأنما حُبسنا في متاهة المعنى، حتى أصبحنا لا نوجه سؤال «ما معنى الحياة؟» لأنفسنا بل أصبحنا نوجهه إلى حيواتنا الممتدة محاولين خلق المعنى من تجاوز الذات، فنحن لا نبحث عن السعادة بل نبحث عن أسبابها، ولا نبحث عن الحب بل نبحث عمن يعطيه بلا شروط، ولا نفتعل الدهشة بل هي من تباغتنا، نحن الأسباب وإن عجزنا عن إدراك ذلك.