لـ وفاء أحمد
يُؤسفني جدّا، بأنّي لا أتذكر أين قرأتُ هذا السيَاق «تعمِيق ما لا يُوجد في التسرُّع» كنايةً عن فعلٍ ما يدعو إلى التمهُّل في المجازات، والبحث عن أسوارِها وما تُخبئه المواقف، الأيّام، الأشخاص.
تخيَّل أن عبارة واحدة مثل هذه، أقرأها على عُجالة، تحولُ بيني وبين شخصي في الأَمس، تُهذّبني، تُعلّمني التمهُّل، وتجعل هالَةً من نُور تلفُّ ذاكرة السرديّات التي قرأتها منذ أن كنت مراهقة وحتى يومي هذَا، في الحُب، وأطياف الفنُون، في الأغنيَات الشعبية والخُرافات، وكيف تكوّن مزيج السرديات والخُرافة الشُّعوب والمُجتمعَات، كيفَ رمّمت أحزانهم، وداوَت أوجاعهم القاحِلة، وسكَبت في خيَالاتهم مخمَل النرجسيَّة والغرُور، ومحبّة بساطهم.
أودُّ أن أذيّل اعترافًا هزيلًا، بأنّي لا أدوّن حتى أُبدي رأيًا فلسفيّا ذا منطق أدبيّ، بل لأني أسرق من عملي ككاتبة وقتًا لأدوّن من أجل أن تستمر هالة الحكاية في ذهنِي بكل جمَالية وبساطة، ذات مشاعر فضفاضة بلون الرتَابة، نعم الرَّتابة! أُحب شمس الأيّام العادية، ولا أعني الطَّقس الحار، وأفضّل رائحة حبوب البُن المحمّصة في المنزل، على أن أبتاع كوب قهوة مُحترِق من الخارج، ومع أن هذه صورة مجازية رائعة، إلا أنني لا أقوم بتحميص حبوب البن في المنزل، ولكنّني أحب تصوّر ذلك، بكل ما يحملُه هذا الفعل من بُطئ وتركيز، وأودّ أن أكتب عن أغنيات كانا يردّداها والديّ كثيرًا لدرجة ظننت بأنهم من قاموا بغنائها عندما كنت صغيرَة، مثل «يَانَاس أحبّه، وأحبّ أسمع سوالِيفه» وعن شجرة التّين التي اخترقت جذوعها خزّان مياه الجيران وقرروا اقتلاعها بعد أن أحضرتُ سلّةً لقطف حبّات التّين المُمتلئة، عن ملاءات السرير البيضَاء، أو عوضًا عن ذلك، سوف أستحضر هالة السرديّات التي أُحب، دون أيُّ قيود، فقط من أجل أنْ نعمّق ما لا يوجد في التَّسرع الذي يسرق أوقاتِنا من بين أيدينا، ولمُتعة التدوين وحدُه.
مُنذ عصور، كانت الأغنية والقصّة السرديّتان اللتان تحملان روعة القصّة وخفّتها، فتخففان وُطأة الشّموس عن أكتاف الفلّاحين بينما يُرددون «يازَهرة الزنجبيلة، يا جاهلة ياصغيرة» فتبدو الجبال والأراضي أكثر ألفةً وحنوًّا عمّا كانت عليه في زَمن أسلافهم، وتتشعّب جذورهم في التُّربة كلمّا أكملوا الغناء «ياليتني تحتَ ظلّك» قاصدين الزّهرة، والحُب، والانتماء، ومنازلهم بعد خطوات ملؤها الحنين لرواية القصص مرّةً أخرى صباحًا، في تكرار لا يُملّ، ولا ينمو عليه التجاعيد بفعل مرور الزمن. لا تتّخذ القصّة لونًا قديمًا مهما تعاقبت عليها السنون وتطاولت عليها الخُرافة، فأصبحت في لونٍ يتناسب مع قوالبها الحديثة، مُنمقّة بآمال الأمهات والآباء عندما يروونها لتُصبح فعلا حميدًا يُحتذى به. يتشكل رونق الرواية لدينا منذ الصغر، منذ القصّة الأولى التي افتعلتها الأمهات ليكسبوا انتباه الصغار فيهدؤوا، ويطلقوا العنان لمجرى الخيال في أذهانهم، حتى نصل إلى منعطف مرحلة الشباب، فتنمو مفاهيمنا وفقا للقصص التي يخبرنا بها الأصدقاء والعائلة للترغيب والترهيب، لازالت القصص تتخذ حصونها على مرّ الزمن، تحتمي بالحوار والتنقل، تُسافر حتى مدن بعيدة، وتصل إلى جذور عريقة، لا يصلها أحدٌ إلا برواية القصّة والأغنية.
كتب عبدُه خال في كتابه (قالت عجيبة، أساطير تهامية نُشرت 2013) بأننا «بقايا أساطير، نسكنُها وتسكنُنا، كإيمان وسلوك، كفعل لانعرف مصدرُه» مُشيرًا إلى كون ثقافتنا تُعجن في بداية طفولتنا عبر حكايات أُمهاتنا وكل من يروي إلينا بأسطورة تناقلها الكِبار حتى وصلت إلى مسامعنا، سأجدني مُنساقة تمامًا حول هذا التأثير النّابع من قراءتي لأساطير تهاميّة، وخصوصًا أني التمست واقعيّة الحكايات المكتوبة مع تلك التي رواها والديّ أثناء طفولتي، ثم نمَت لتتعشب الحكاية بين تهامس أصدقائي حول الجنّ والعفاريت، وصولًا إلى هدهدة أمي «يا نُوم رقّد عيالك واسرح جِمَالَك دوهة»، وإلى لعبة شعبيّة نفرُش بها كف أيدينا و نلصقها على صدورنا الصغيرة فنقول «جبل ماشي، عالمماشي، جيث أضمّه، خطف شاشي». وبينما أُلبّي نداءات أبي، أفكّر.. أيّ السرديات التي أثّرت به عندما كان شابًا؟ لقد حظي إخوتي الأكبر سنّا برؤية أبي عندما كان يلبس بزّته العسكرية، بحاجبين معقودين، ونظرة ثاقبَة نحو أمي، السيّدة الجبلية التي تمقت ذكرى الجبَال ومصاعِبها بعينٍ كحيِلة. أدركت لاحقًا، مع كل تلك الفروق التي نشأنا عليها أنا وإخوتي التسعة، نوع السرديات التي أثرت بهم، وهم يخبئون روايات بحجم الكفّ في جيوبِ معاطفهم بعد وجبة العشاء، والتي كان يبتاعها أخي الأكبر من المكتبات المنزوية في شوارع الحيّ، ورغم القواعد الصّارمة لنوع المؤلفات المنتشرة ما بين (2001) و (2009)، إلّا أن روايات الجريمة والسُّجون والمجلات الأدبية طالت مكاتِبُنا الصّغيرة، مثل (رجلُ المستحيل، سلسلة أدبية من روايات الجيب لمؤلفها الدكتور نبيل فاروق، بدأ إصدارها 1984م، وانتهت عام 2009م بعدما نُشر منها 160عدد). هذا الذكاء الروائي الذي خلّف أعينٌ فضولية تتبّع الكلمات بنهم، تكسرُ بكل صلابة تقليدية الروايات المُحافِظة. وفي وتِيرةٍ لا تبدي إشارة على التباطؤ، تضخّمت هالة الرّواية والأساطير التي تُؤثر بي، عندما روت أختي الوسطى شفهيا قصّة مليكة أوفقير وعائلتها عن رواية (السجينة التي صُدرت عام 1999م)، ونحن نحيطُها بأفواهٍ فارغة، كان خيالي خصبًا حينها، في التاسعة من عُمري، يتناثر من حول رمشِ عيناي تُربة السّجون، كنت أراهم جيّدا بوضوح وهم يحفرون نفقًا بغطاء علبة ألمنيوم! حتى وصلوا إلى بقعة لاذت بهم إلى الحُريّة. فيما بَعد، طَرقت رواية (شُقّة الحرية 1999م) لمؤلفها الدّكتور غازي القصيبي نافذة مُراهقتي، في وقتٍ مُبكّر على فهم التلاحم السياسي والثقافي، لتأتي بعاطفة خاطِفة لا نظِير لها، هذه الرّواية بجانب الأجزاء الثلاثة من الزهرات الثلاث للروائية الأمريكية نورا روبرتس، شكّلت طيفًا من ذاكرتي، وكأنهما حدثتا بالفعل في وقتٍ سابق من حياتي. ويفسّر ذلك طولِ سردها الذي بات جزءًا من روتين مُخيّلتي. هُنا تمامًا.. أدركت حقًا كم أن السرديات تُمثّل مخاضًا للتيار الفكري لكل شخصٍ منّا، تتولد الأفكار تباعًا للفضول الذي آلم السّكون واستقرار رتابتَه، يجعلها ترتعد وتهدأ، تسكنُ وتهبُّ في وحدته، تنساب عبر سلوكه وكلماته، وصولًا إلى كفّ يده، فتتغلغل في ممارساتنا ومعاملتنا اتجاه العائلة، والمُجتمع.
أُحبُّ استطراد أحد المشاهد الروائية في رقّة الحُب العُذري من رواية (الرسّام تحت المجلى2011م) لمؤلفها أفونسو كروش عن شخصية بُرتغالية يهودية نصف خيالية ونصف حقيقة يُدعى سُورس، كان يهيمُ غرامًا بالأشياء غير المنتهية كَرسم الدّوائر، ويؤمن أن جاذبية الحُب أقوى من جاذبية الأرض، لأنّه عندما كان يدفع محبوبته فرانتيشكا على ظهر الأرجوحة إلى الأمام، كانت تعودُ إليه مرّة أخرى، وكلّما دفعها يحسّ بأن الكون يعيدها إلى ذراعيه مهما أبعدها، كان يشعر بالانتصار وهو يقاوم الجاذبية، ويؤمن بأن العالم بأسره يشدُّنا إلى الأسفل بصورٍ ومشاهد عديدة، لكنّ أيدي من يحبوننا تدفعنا إلى أعلى، دون كلل. هذه الصورة الروائية عن طفل ذي ثلاثة عشر ربيعًا، تدفعني لفضول تأثير السرديات أكثر فأكثر! في كتاب (أفروديت 2000م) للكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي كتبت بكُلِّ حميميّة سرمديّة الحُب المُمتزج بالطَّعام، وراحت تُخبرنا أن “حدائق الذّاكرة التي نتجوّل إليها مُرتبطة بالحواسّ” مُشيرةً بذلك أن الحُب طعام أرواحنا، لهُ طقس خاص من الإلحاح لحفظ اللّذة طويلًا على اللّسان، وأنّ القصّة تحملُ مذاقًا سخيّا وحميميّا عندما يُرافق ألذّ التوابل وأشهى اللُّحوم نصف الاستواء وارتباطها العمِيق بالعائلة، والحُب، وشريك الحياة، ونموّ جِذع الأَطفال. كُل هذه الانسيابية المسكوبة في صحوننا، كان لها أثر بالغ في ترابط رتم حياتِي الآن، وأنّنا جميعًا مُرتبطون بطبقٍ خاصٍ من الذّاكرة. ومن هُنا إلى رام الله المحتلّة، عند البُقعة التي فقدُّت عندها أوّل معنى للرفاهية غير المرئية، وشعرتُ بسُخف تجاهلي إياّها، في قصّة (ستائر العتمة 2001م) عن راويها الأسير وليد الهودلي، في مُستنقعٍ من الرذيلة والأسى، حيثُ يصف الأكسجين الذي ننسى بأننا نتنفسّه ولا ندركُه باللّذة، بعد أن نُبذ من أرضه إلى الصّحراء تسعين يومًا من التعذَيب والاعتقال، وقد وصف لاحقًا ـ عندما عاد إلى سجن عسقلان ـ الشّمس بأنها تداعب وجنتيه بربيعها الهانئ عندما عاد إلى مركز التحقيق، فظلّ يشاهد إلى واسع فضاءِ السّماء وهي تجمع في أحضانها قطيعًا من الغيوم، هذه التفاصيل الصّغيرة جدّا، جدّا التي تبدو جزءًا غير مرئيًا من يومنا، يشتاق إليها الأبطال الذين لا نعرف عنهم سوى أرقامًا مُسجّلة في عداد الوفيّات. عندما وصلتُ إلى الفصل الخامس من القصّة، عرفت.. بأن الأبطال تُبتر قصصهم عند اللحظة التي ظننّا معها أنهم قريبون من النّصر ولم يصل إلينا مشهد نصرهم، لأنهم لقوا حتفهم هناك.. قُرب النهاية التي كانت ستسعدُنا. لقد غادرتْ كلّ تلك السرديات زمنها التي سُردت فيه، ولكنّها لم تغادرني يومًا، بجانب كل تلك التي لم أذكرها هُنا، ولأنّني بقيت جُزءًا منها، من الأساطير والخُرافات والقصّة.