لـ محمد غازي
«نمجد في هذا العصر قيمة فن قطع العلاقات والابتعاد عنها بشكلٍ يفوق بكثير فن إقامة العلاقات»
– زيجمونت بومان
مرحبًا.
استيقظتُ البارحة لأجد نفسي مربوطًا بإحكام، حبل بلاستيكي يحيط بخاصرتي، حبل بلاستيكي يربط يدي، وحبل بلاستيكي يربط عنقي، معلَّقًا على رف، أتنفس بصعوبة داخل علبة بلاستيكية شفافة توازي حجمي، نظرتُ يمينًا وشمالًا كمن يريد قطع شارع ما، لأجد أن الرف مزحوم بالكثيرين مثلي، وفي مثل حالتي البيعية تلك، مغلفين وجاهزين، نظرت للأسفل لأجد بطاقة قرأت ما فيها بصعوبة:
اسم المنتَج «محمد»
الوزن (69)
الطول (177)
الاهتمامات: «علم النفس، الأدب، الفلسفة، السينما، والكثير من الأشياء الغريبة وغير المبررة».
القيمة المضافة: «يجيد إضحاكك».
السعر: (159) سابقًا وبعد الخصم (109)
فجأة رأيتُ امرأةً تقتربُ من الرف، وتحدق باهتمام في الأشخاص المعلقين هناك، المنتجات المعروضة بمعنى أصح، تتجاوزهم واحدًا تلو الآخر، إلى أن وصلتْ إليّ. ولا أدري لمَ داهمني شعورٌ غريب بالرغبة العارمة في أن تشتريني، لأول مرة أتمنى أن أكون سلعةً رائجة.
“أتمنى أن تلتقطني الآن، أتمنى أن تخرجني من هذه العلبة الخانقة. ها هي تقترب، ها هي تحدق في وجهي الشاحب، ها هي تضع عينيها على بطاقة المحتويات، ها هي تصل بعينيها لخانة الاهتمامات، علم نفس! (أوه انترستنق)”
ثم تقع عيناها على السعر، ويتحول وجهها لملامح محبَطة. فالناس يعتقدون أن الأشياء الرخيصة لا جودة لها.
تكمل سيرها للعلبة التي تليني.
وحينها أردتُ أن أصرخ، لا بل صرخت.. “اللعنة. عودي، أرجوك عودي، سأعيد لك المال، حرريني فقط وسأعيد لك المال” صرختُ كثيرًا ولم يكن صوتي مسموعًا لأحد، مهما صرختُ فلا أحد يشعر بي، و كأنني أصرخ في قاع بئر، فانهرت من اليأس بكاءً مثل طفل مزعج.
استيقظتُ فجأة من النوم لأجد أنه كان مجرد كابوس، ياله من كابوس مرعب.
لكن هل تظن أنه غير واقعي؟ في اعتقادي أننا نعيش واقعًا شبيهًا بهذا الكابوس، فنحن وكما قيل لي كثيرًا من شيخي «باومان» نتعامل مع بعضنا كمنتجات استهلاكية، ووظيفتنا هي أن نمتع ونستمتع، بخفة وسهولة وسرعة، فلا مجال للعلاقات الطويلة المملة، والمليئة بالمسؤوليات الثقيلة.
إن وفرة الخيارات في هذا العصر، من ناحية الأكل والشرب وأماكن الترفيه والاستجمام، جعلتْ هذا الإنسان الحديث المرفه يعتقد أن هنالك وفرة في الخيارات أيضًا على مستوى العلاقات، فالحبيبة يمكن استبدالها بحبيبة أخرى، والزوجة يمكن استبدالها، والأصدقاء يمكن رميهم في قمامة إعادة التدوير والحصول على دزينة جديدة من الأصدقاء الجدد.
فدائمًا يعتقد الإنسان الحديث أن هنالك خيار أفضل، فصديقي الحالي يمكنني الحصول على من هو أفضل منه، أكثر ذكاءً وأكثر خفةً للظل وأكثر امتاعًا وتجددًا.
لكن ما لا يعرفه هذا الإنسان الحديث هو أنه لا خيار أفضل، ما دام موبوءًا بهذه العقلية الاستهلاكية، فهو لن يجد خيارًا أفضل أبدًا، فكل خيار جديد سيفقد قيمته مع الوقت، بدافع الملل والتعود، لتجبرك عقليتك على البحث عن خيار أفضل مجددًا، وهكذا تستمر في الاستبدال، وتستمر في البحث عن خيار أفضل، في دائرة مفرغة بلا نهاية، إلى أن تكبر وتفقد طاقتك وشغفك وتخمد نارك وتترمد روحك لتكتشف بعد فوات الأوان أنك وحيد، بلا أصدقاء يحبونك لذاتك، ولا أحباء يجدون أن قيمتك الجوهرية تكمن في روحك، ولا كتفًا قويًا وآمنًا تستند عليه عند تعبك، ولا عصبة تلجأ إليها عندما تكشر الحياة لك عن أنيابها، وحيد وعجوز وبائس، ولم تحظ بعلاقات طويلة الأمد، فكثرة الاستبدال فوتت عليك تعميق أي علاقة.
إن العلاقات شيء تزداد قيمته كلما طال عمره، أشبه بالخمر الذي تزداد جودته كلما تعتّق، وإن الحب شيء أقرره كل يوم، كل يوم أستيقظ لأقرر أن أحب الإنسان ذاته، مهما حدث، مهما اختلفنا ومهما بدا مملاً وغبيًا وتافهًا في بعض الأحيان.
فالحب مسؤولية وليس مجرد شعور بالحماسة تجاه شخص، إنه قرار مصيري، أعيد التوقيع عليه كل يوم.
والعلاقات كالجسد، تمرض أحياناً، تصاب بالزكام، تسعل، تنام، تستيقظ، يكون مزاجها عاليًا أحيانًا، وتكتئب في أحيان أخرى، تضحك تلك العلاقة، وتبكي، وتصرخ وتغضب، كأي جسد بشري، والتعامل معها على هذا الأساس يفيدك في إطالة أمدها والتعامل مع مشاكلها وصعوباتها وتقلباتها، إن مرضتْ صنعت لها الأدوية، وإن غضبتْ خلقت لها الهدوء، وإن نامتْ أطفأت لها النور، وإن استيقظت مجددًا قلت لها: مرحبًا مجددًا، صباح الخير، أهلًا بعودتك، مع السلامة.