«أنا معجبٌ بك!»
كم مرّة خِفت أن تقولها هكذا دفعة واحدة وآثرت أن تُخفي إعجابك بالآخر وتخنق دهشتك بالأشياء من حولك؟ كم مرّة أجلت الاعتراف بأنك معجب، وأنك أحببت فعلًا ما تراه حتى خَفُت الإعجاب قبل أن تصرّح به في وقته. ألسنا بذلك نفسد الدنيا، ونقلل من أهمية كل جميلٍ نراه وكل رائعٍ يمكن أن نتفاعل معه في الحياة؟
الإعجاب، شعور أم فضيلة؟
إذا كان الإعجاب شعورًا إنسانيًا فإظهاره والاعتراف به فضيلة، فحينما تعترف للآخر باعجابك بما يقوم به، تُنمّي لديه شعورًا عظيمًا بالامتنان لك وللعالم، وتنزع منه المشاعر السلبية مثل السخط على الناس والمجتمع. عبر الإعجاب تؤصّل الأفعال الحميدة وتقوي ارتباطك بالناس من حولك، إخفاء إعجابك بأي شيء جدير بالإعجاب هو تقطيع للروابط بينك وبين الآخرين، وزيادة في حجم تلك الفقاعة التي تحوّط الإنسان الحديث وتعزله عن الآخر.
فالإعجاب من بين كل المشاعر هو القادر على ربط الأشخاص ببعضهم ويعزز هذا الترابط الإجتماعي من حيوية المجتمع وفعاليته، فالإعجاب ينتزع المرء من نفسه ويدمجه مع الآخرين.
وهنا يذهب الفيلسوف الفرنسي ميشيل لكروا في الربط بين الإعجاب والإحساس بالمواطنة، فيقول «الإحساس بالإعجاب ينمي الشعور بالمواطنة، ويساعدنا على أن نكون اجتماعيين أكثر ومتحدين أكثر».
لذلك نحن بحاجة إلى ذلك الإحساس الساحر الرفيع الذي يربط مكونات المجتمع ببعضها، من أفراد ومظاهر طبيعية وأرض وشخصيات ثقافية وتاريخية، فالإعجاب فضيلة لأنه انتصارٌ للجمال واعتراف بحق كل إنسان في أن يتفرد عن غيره وأن يتقبل الآخر هذا التفرد.
الإعجاب في مواجهة الحسد
الإعجاب وقوف ضد الاحتقان والحقد والتنافس المحموم مع الغير في حياتنا الحديثة، لذلك أرى أن الإعجاب بديل عن الحسد، وأن هذا الانتشار المروّع للحسد والهوس به في أيامنا هذه، ما هو إلا نتيجة لخنق الإعجاب والبخل في إبدائه، فبات الحسدُ أقرب وأسهل من أن ينحني المرء إعجابًا لكل ما يستحق.
فالحسد هو الشعور بالعجز الذي ينتج حينما يقارن الإنسان حياته ككلٍ بلحظةٍ واحدة تعجبه في حياة شخصٍ آخر، والإنسان كائن متفرد بذاته وحياته وحدة واحدة بمآسيها وأفراحها، فلا يمكن مقارنة حياة كاملة بلحظة واحدة فقط.
يُعرّف الفيلسوف سورين كيركغور الإعجاب على أنه الإستسلام السعيد للذات، فهو الشعور بأن الآخر جيد جدًا في شيء ما بحيث لا يمكن للمرء إلا أن ينظر بتقدير إلى مدى جودة ما يقدمه هذا الآخر، وأن الحسد هو شعور سلبي تجاه الذات ينشأ من المقارنة مع الآخر المتميز، مثلما جاء هذا في ورقة بحثية نُشرت في نشرة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي في جامعة تيلبورج، تقارن ما بين الإعجاب والحسد، وخلصت عبر التجربة أن الإعجاب ربما لا يدفع الإنسان لتطوير ذاته مثلما يحدث عندما يشعر بالحسد ولكن ما هو أكثر أهمية من الأداء الأفضل هو الشعور بالتحسن أو لنقل الرضا الناتج من الشعور بالإعجاب.
أنت من تختار، إما الحسد وما ينتجه من آثارٍ مدمرة على النفس، أو تحرير الإعجاب والدهشة من قفص الداخل إلى اتساع الخارج، فاللحظة التي يولد فيها الحسد ويبدأ الانتشار والسيطرة على قلبك، هي ذاتها اللحظة التي يجب أن تُظهر إعجابك فيها للآخر، وأن تُحييه على ما يقدمه.
هاجس المساواة
نحن في عالمٍ يُغذي غرورنا بشكلٍ يومي، يُعظّم من ذاتنا ويدفعنا للتمحور حول أنفسنا، فالإنسان الحديث تعمل لديه كل الشركات والمصانع حتى يتيحوا له إمكانات مدهشة؛ من تقنيات وتكنولوجيا ومزايا، وهذا بشرط أن يبقى مستهلكا شَرِهًا، لا سقف لطموحه ولا نهاية لقائمة مشترياته.
لماذا عليَّ أنا الإنسان الحديث أن أعترف بتفوق الآخر عبر إظهار إعجابي به؟ هذا لسان حال الإنسان الحديث، الذي يملأ هاجس المساواة عقله حتى صارت المساواة نوعًا من الغرور، فهو يشعر بألا أحد يستحق أن يتفوق عليه، ولا أحد يمكن أن يقدم شيء يصعب أن يقدمه هو، لذلك يرفض الإعجاب ويخفي دهشته بالأشياء من حوله، حتى بات عالمنا شحيحًا، يعاني من التصنع والتكلف، ويدفع الإنسان للتمحور حول ذاته.
فالإنسان الحديث إذا حضر عرض مسرحي، أو حفلة شعرية أو فيلمًا في السينما، أو حتى قرأ كتابًا، وبدا معجبًا تمامًا بما يقدمه غيره، كثيرًا ما يخفى هذا الإعجاب، ويقيدّه، ويهذبه، ومن ثم يعلنه كأنه حُكم قضائي يصدر من خبير. فنحن في عصر لا يحترم المعجبين يُبدي فقط اهتمامًا بهؤلاء الخبراء والمحللين، الذين يبدون إعجابًا مشروطًا ومنقوصًا.
ألا يمكننا أن نعجب بالأشياء ببساطة، نُظهر تعاطفنا ودعمنا دون شرط أو قيد أو حتى تفسير، صار من الصعب أن يعود الإنسان لحجمه الطبيعي ما قبل عصر الحداثة، الذي تفجرت فيه الذات وتمادت، حتى غرق فيها الإنسان وانشغل بها وتلاشى شعوره بالآخر. الإعجاب إيمانٌ بوجود هذا الآخر، واستعمال كامل للعينين، فعين المُعجَب ترى الجمال بوضوحٍ أكثر.
عقلية الشك
العالم الذي نعيشه الآن عالمٌ ساخر، يُعلّي من قيمة السخرية والنقد على الإعجاب النقي، فنميل لإخفاء إعجابنا خوفًا من الظهور الساذج، الذي يجعلنا فريسة لسخرية الآخرين، إنسان هذا العصر تسيطر عليه عقلية الشك، فهو متشككٌ على الدوام في كل شيء حوله، وهذا الشك يصيبنا بالارتياب الدائم وهنا يكون من الصعب أن نتعامل بعفوية وأن ننساق وراء الحماسة ونعترف بإعجابنا، فربما هذا الموضوع لا يستحق دهشتنا، أو أن الإعجاب بهذا الشخص سيقودنا للتعلق به وهذا التعلق سيتيح له نوعًا من السيطرة علينا، فنحن في العالم الحديث نتحمل مسؤولية أي شيء يحدث لنا بشكل كامل وفجّ! لذلك نظل حذرين طوال الوقت، خائفين من تكرار تجاربنا السيئة ومن الوقوع في مصيدة سيطرة الآخر، هذا الآخر الذي لا يكف عن محاولة السيطرة علينا. فإذا كانت القيمة الوحيدة في الحياة الحديثة هي للأشياء التي نمتلكها ونستحوذ عليها، أي «نشتريها» فلن يكون هناك حدّ لهوس السيطرة على الغير، وهذا يدفعنا أكثر للحذر من إظهار إعجابنا مخافة أن نقع في مصائد التعلق بالآخر ونطاق سيطرته.
اضغط «إعجاب»
في عصر «السوشال ميديا» تحوَّل الإعجاب من تفاعل حقيقي ما بين الإنسان والآخر، إلى رقمٍ يجب أن يُحصد أكبر قدر منه، لأن هذا الرقم يدل على الاستحقاق والنجاح والشهرة! الآن تحول عدد المعجبين والمتابعين على السوشال ميديا إلى هوية كاملة جديدة يُعرّف المرء نفسه بها؛ «أنا أحمد، عندي مائة ألف متابع! وأنت؟»، هنا يخرج الإعجاب عن تعريفاته الطبيعية ويتحول لهوس الامتلاك والحصد، اضغط «لايك» الآن أرجوك ولا يهم أي شيء آخر!
الطبيعي حينما يقدم الإنسان محتوى أن يُعبّر هذا المحتوى عن أفكاره وأحلامه، عمله وما يصنعه، وحينما يعجب الآخر بهذا المحتوى يتفاعل معه عبر الشكر والثناء والتأييد، هنا يحدث التلاقي والانسجام ما بين الأفراد، وهذا هو معنى التفاعل الحقيقي باختصار شديد.
أما التفاعل الإفتراضي فهو العكس تمامًا، حيث ذلك الهوس بحصد الإعجابات وتجميع أكبر عدد منها حوَّل المحتوى إلى مادة لامعة، تخطف الأبصار في ثوانٍ حتى تسرق منك تلك النقرة بسرعة، ومن ثَم فلا يهمني شعورك بالإعجاب أو السخط، أو حتى إن كنت أصلا لم تر محتواي أو لم تفهمه! فعندي الدليل وكفى بالأرقام دليلًا قاطعًا في عالمنا الحديث.
والنتيجة أن كل الناس باتوا ينافسون بعضهم البعض، فالظهور والانتشار هو المبتغى الأول، الشهرة تحولت لمطلبٍ عام غير محدود في طبقة معينة أو مجالات محددة، الشهرة باتت متاحة للجميع، تلك الإتاحة أشعلت الفوضى في المجتمعات، وصار الأفراد في تنافر دائم، فإذا كان هناك محامٍ يترافع في قضية ما، ففي العالم الحديث يمكن أن يكون منافسه شاعر يتلو قصيدته! فكلاهما لا يطلبان التألق فيما يقدمانه على اختلافه، بل يتنافسان في طلبهما للشهرة والظهور، فيضن هذا بإعجابه على ذاك، ويزداد العالم تجهمًا واحتقانًا وفردانية.
لك أولًا قبل أن يكون للغير
تحرير المشاعر الإنسانية والإبقاء على عفويتها هو بمثابة الحفاظ على حيوية الحياة، لا شيء يضر بالإنسان أكثر من تقييد مشاعره وتقليمها وتحويرها، لذلك إظهار الإعجاب يفيدك أنت المُعجَب قبل أن يعود بالنفع على الآخر، فالدهشة تُنعش القلب، وتحافظ على جودة الحياة، وأن هذه العقلية السائدة التي تضع سهولة التعبير عن الدهشة والإعجاب في تضاد مع الحكمة والنضج ما هي إلا عقلية بائسة، تبرر بؤسها عبر حكمة زائفة لا أصل لها.
يقول إبراهيم نصر الله في روايته طفولتي حتى الآن: «قمة النضج أن نظل أطفالًا، لأن الطفولة قمّة الحياة».
كن مثل الأطفال في إبداء الدهشة والتأييد لكل ما يستحق الإشادة والإعجاب، لا تتوقف أبدًا على التصفيق لأي مؤدٍ يتقن دوره في الحياة، أنت متفرد بقدراتك التي تميزك عن غيرك، وأن تبدي إعجابك بالآخر هو تقدير لذاتك أولًا، تلك التي لا مجال للمقارنة بينها وبين الآخرين.
أنا معجبٌ بك -قارئي العزيز- الذي وصلت لنهاية هذه المقالة، وأدعوك الآن أن تقولها بصراحة وعفوية لمن يقابلك ويعجبك ما يقدمه، فورًا وقبل فوات الآوان، ولا تنس أن ترى الأشياء من حولك بعينِ المُعجَب وتحرر دهشتك إذا ما قابلك أي جميل أثناء سيرك حتى ولو أمر في غاية البساطة، مثل تفتح زهرة أو شروق شمس يوم جديد.