جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

رحلة البحث عن سكن

هل تذكر آخر مرة دعوت فيها أصدقاءك ومعارفك إلى المنزل عوض عن المطعم؟ ومتى كانت آخر لحظة خطر لك فيها البيت عندما أردت الهروب من مشاكل الحياة؟

وقت القراءة المتوقع: 6 دقائق
[gpd]

تحرير هاجر حسين

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

للاستماع للمقالة

بصوت:

محمد خوجلي

00:00 / 00:00

في عالمٍ متسارع تعاني فيه المبادئ والقيم من العمر القصير، والبدائل المتعدّدة، وعيش اللحظة الراهنة التي لا تمتدّ لما بعدها، يُفرّغ البيت -هو الآخر- من محتواه ويصبح مجرّد فضاء من بين آلاف الفضاءات المجرّدة، لا معنى له، ولا شيء خصوصي بشأنه. هل تذكر آخر مرة دعوت فيها أصدقاءك ومعارفك إلى المنزل عوض عن المطعم؟ ومتى كانت آخر لحظة خطر لك فيها البيت عندما أردت الهروب من مشاكل الحياة؟ 

 البيت من الوطن إلى اللاشيء

أصبح البيت أشبه بمرقد يرجع له الجميع آخر النهار ليقضوا فيه لياليهم، لم تبقى تلك المرجعية التي يلجأ إليها أفراد العائلة، العمود الذي يعرّف به المرء نفسه، المساحة المتماسكة التي تمتلئ بدفء اللحظات وحمولات الزمن، الملجأ المكتضّ بالحوارات والتلاحمات التي تصنع الماضي والحاضر وتنسج تاريخ العائلة، لم يصمد بصفته ذاكرة المرء وهويته، المكان الذي يشكل شخصيته رويدًا رويدًا كلما مرّ الزمن، المكان الشاهد على النجاحات والنكسات، والمعيار الذي نحكم به كلما اختلطت علينا المفاهيم لأنّنا في النهاية أبناء بيوتنا. 

لقد حوّلت الحداثة المفرطة البيت إلى اللامكان، بتعبير الفيلسوف الفرنسي مارك أوجيه الذي يقول

اللاأمكنة هي وليدة الحداثة المُفرطة أو الحداثة الفائقة، وهي مساحات لا يعيش المرء فيها، بل يسكُنها بطريقة مجهولة ومنفردة” وصار مجرّد مكان عابر قابل للتبديل، لا يستقرّ فيه المرء ولا يأنس به؛ وهذه الأمكنة القابلة للتبديل -كما يرى أوجيه- شأنها شأن المراكز التجارية ووسائل النقل، والفنادق ومدن الألعاب، والمقاهي وأماكن العمل، كلّها فضاءاتٌ متحرّكة لا يمكن للمرء أن يغرس بها جذوره، أو أن يبني على أساس قويم تجاربه وذكرياته، أو أن يستمرّ ذكره فيها مهما طال الزمن، يغدو المرء عرضة للنسيان وفريسة للحظة العابرة، يغدو سريع الزوال، ويُنسى -على حدّ تعبير درويش- كأن لم يكن! 

انتقل البيت من كونه المكان الذي يتشارك فيه الأقارب والجيران بشكل قريب وحميميّ كل اللحظات والمناسبات الدينية والاجتماعية وفقًا لثقافتنا العربية والإسلامية التي تحثّ على صلة الرحم، والإحسان إلى الجار والتكافل والإخاء إلى مساحة يمارس فيه المرء نزعته الفردانية، ويحتفي بالأنا الطاغية التي لا تسمح له بالتشارك مع الآخرين، وإشراكهم في حيّزه. لقد أصبح كل ما يهمّ الآن هو التمرّد على القيم، والثورة على الفروض الاجتماعية التي تبدو مقيِّدة وقاهرة، وبالتالي اللامبالاة بقيمة البيت، ففي عالمنا الحديث، “كل مقدّس يدنّس” كما يقول ماركس وانغلز. 

البيت المستباح 

تعزّز العمارة الحديثة للبيوت مفهوم الاستعراض والتمركز حول الذات والعيش في الواقع الافتراضي بدل الواقع الحقيقيّ. البيوت الآن أصبحت مجرّد محتوى لوسائل التواصل الاجتماعي، تزوّد المرء بأفكار للفديوهات، وتساعدنا جدرانها على إيجاد خلفيات للصور المنشورة، وربما يُكوّن الديكور الخاص بها عاملًا أساسيًّا لزيادة التفاعل، والحصول على الرضا الموهوم. 

لكنّ الجو الموجود فيها والروح الخاصة بها كلون الطلاء، وزوايا الأثاث والإطارات المعلقة، والتذكارات المقتناة هي قابلة للتغيير من فترة إلى أخرى. حتى لا يملّ المتابع من الصور ذاتها؛ فيفقد الحساب تفاعله. ماذا عن كلّ الحمولات النفسية، والرموز والمعاني التي تحملها تفاصيل الديكور القديم؟ لا طائل منها، لقد أصبحت مجرّد ماضٍ! 

والبيت الحديث فضلًا عن أنّه فقد خصوصيته بمشاركة كل تفاصيله مع المتابعين من كل أنحاء العالم، إلا أن عمارته في حدّ ذاتها تمثل انتهاكًا للخصوصية. قاعة الضيوف مفتوحة على المطبخ، الجدران أصبحت نوافذ طويلة عريضة تتيح لمن هم في الخارج أن يروا ما بالداخل، والطريق الذي يؤدي نحو الغرف الخاصة سهل وانسيابيّ، والغرف بحد ذاتها متشابهة، وموحّدة النمط ضمن الطراز المينيماليست بألوان ثابتة، لا أثر فيها لشخصية الإنسان وانتماءاته ومبادئه. 

استباحت العمارة الحديثة خصوصية أصحاب البيوت وضيوفهم، قبل أن تستبيحها وسائل التواصل الاجتماعي، لكنّها أحدثت كذلك قطيعة مع الخصائص الزخرفية والجمالية وحتى الروحية للبيوت التي كانت تبنى وفقًا لثقافة المرء المحلية وانتماءاته الدينية، فأنتجت نسخًا مكرّرةً من إنسان حديث موجود في كلّ بقعة من هذا العالم، وانتهكت شخصيته الخاصة به. بيوت اليوم لا تشبه -قطعًا- البيت الذي تحدّث عنه المعماريّ المصريّ الشهير حسن فتحي في كتابه عمارة الفقراء فقال: ” البيت هو الرمز المرئي لهوية الأسرة، وأهم ملكية مادية يمكن للإنسان أن يحوزها وهو  الشاهد الدائم على وجوده”. 

في ثقافتنا الإسلامية: البيت مركزيّ! 

تقوم هندسة المدن الإسلامية على ثلاثية مقدّسة: المنزل والمسجد والسّوق، ويتمّ اختيار أفضل موقع للمنزل بصفته الركيزة الأساسية للمجتمع؛ فيكون مركزيًّا وقريبًا من المرافق التي تلبي احتياجات ساكنيه. يقول الباحث كلود بافار في حديثه عن مركزية المنزل في العمارة الإسلامية: “تتخذ الدّار أحسن ملجأ لأنها مأوى الأسرة، والأسرة هي حجر الزاوية في المجتمع، بالرغم من أنّ الحياة الداخلية تبقى مقدسة”. 

ونظرًا لقداسة البيت وخصوصيته في الثقافة الإسلامية، فقد تمّ مراعاة حقوق الجار ومفاهيم الحرمة أثناء تشييده؛ إذ يؤدي البيت الخارجي عمومًا إلى مدخل آخر ثم سلم حتى لا يستطيع المارّ أن يكشف أهل المنزل، كما تبنى النوافذ من الخشب المشبّك حفاظًا على خصوصية أهل البيت، ولا يمكن للمرء أن يعلو في البنيان على جاره إلا بإذنه. اللافت كذلك أنّ كلّ بيوت العمارة الإسلامية تعزّز مفهوم التزكية والتقوى في الإسلام، من خلال تجميل الباطن قبل الظاهر، وهذا ما يلاحظ في معظم المدن الإسلامية كالقصبات العتيقة في بلدان المغرب العربي، والقاهرة القديمة، وبيوت المسلمين في الأندلس، فهي في الخارج موحدة اللون والشكل، ومتشابهة وبسيطة، حتى لا يكون هناك فرق بين “عربي ولا أعجميّ إلا بالتقوى“، لكنها في الداخل جنّة المرء وواحته الغناء، من خلال الفناء الذي يتوسّط البيت، والزخارف والأعمدة وغيرها من مظاهر الجمال، إنّها بيوت تهتمّ براحة المرء وفطرته وسكينته، بيوت تشبه المرء وترفق به.  

أفسدت الحداثة بيوتنا، غير أنها في الحقيقة أفسدت علاقتنا النفسية والوجدانية بها، فأبعدتنا عن أنفسنا أكثر فأكثر. صحيح أنّ المطابخ فارهة وكبيرة ومزودة بأحدث التقنيات، لكنها كما قالت الكاتبة الإيرانية فيروزة دوماس “أرني منزلًا فخمًا بمطبخ فيه طاه مختصّ، وسأريك عائلة تأكل طعامها في الخارج أكثر” هي خالية من الروح، وعاجزة عن جمع أفراد العائلة. إنّنا ننجز أعمالنا في المقاهي، ونلتقي في المولات الكبيرة، ونقضي اليوم كله بين الشوارع ووسائل النقل، ولا يمثل البيت لنا سوى جدرانٍ عازلةٍ مفرّغة من المعنى، لا تصلح لحمل همّ أو قضية، لا تتّسع لفكرة! 

30
1

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
2 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن السفر
كنت أتساءل ما الذي يعنيه الاتساع؟ انبثقت صورة في ذهني للطبيعة الخلابة، نسيم الهواء العذب، السير على الأقدام لمسافات طويلة والحديث الرحب مع الغرباء.

وقت القراءة المتوقع: 22 دقيقة
عن المدينة
هل تذكر آخر مرة دعوت فيها أصدقاءك ومعارفك إلى المنزل عوض عن المطعم؟ ومتى كانت آخر لحظة خطر لك فيها البيت عندما أردت الهروب من مشاكل الحياة؟

وقت القراءة المتوقع: 6 دقائق
عن النفس
هذه المبالغات في تقدير ثقل الكلمة تصنع لنا أناسًا مهوسين بانتقاء الكلمة و كذلك بالظهور بأعلى قدر من الأناقة مظهرًا وتصرفًا لكنهم فارغون تمامًا إن جئت لتبحث عن أفعال و إيثار وعطاء.

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً