جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2024.

لماذا نؤجل مهامنا؟!

ألا تلاحظ معي أن التأجيل أصبح أسلوب حياتنا الحديثة؟ حيث لا شيء ينجز في وقته المحدد، وأن كل مهمة ننجزها هي في الأصل مهمة مؤجلة

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

للاستماع للمقالة

بصوت:

محمد خوجلي

00:00 / 00:00

ألا تلاحظ معي أن التأجيل أصبح أسلوب حياتنا الحديثة؟ حيث لا شيء ينجز في وقته المحدد، وأن كل مهمة ننجزها هي في الأصل مهمة مؤجلة. نحن نضطر دائمًا للتأجيل، وفي نفس الوقت نغرق في القلق وتأنيب الضمير بسبب ما نؤجله.

ولهذا علينا أن ننظر للتأجيل بنظرة أقل قسوة، فربما يكون التأجيل ضرورة في عالم تزدحم فيه المهام بشكل جنوني، ويسير بسرعة لا تناسبنا.  

 

التأجيل نوع من التمرد

نحن نعيش اليوم في عصر السرعة القصوى، وتلك السرعة التي يتسم بها كل شيء إنما بسبب أننا نحمل اللحظة الحالية بمهام وهموم وآمال أكثر بكثير مما يمكنها احتماله، فيختفي الحاضر وكأنه تَشظَّى بين ازدحام الأمور، دون أن نعي منه الكثير وهنا يكون التأجيل نوعا من أنواع التمرد على هذا التعاقب السريع للأشياء، فإذا استسلم الإنسان الحديث لفعل كل شيء في وقته، سيصبح مثل آلة تعمل دون توقف وبلا شعور! فهذا التعاقب السريع للأشياء يحول دون التواصل مع القلب وإشراكه في الفعل والتفاعل معه.

أحيانا يكون تأجيل أداء مهمة ما إنقاذًا لها، فالإرجاء يتيح لنا البحث المستمر عن وقت مناسب، أو حتى شبه مناسب، لإعطاء كل شيء حقه؛ من تركيز واتصال وارتباط، وإلا سنفقد الإتقان تماما في كل ما نفعله.

ألا تتفق معي أن الحياة اليومية صارت غارقة في فوضى مريرة نعاني منها؟ فكل شيء متاح طوال الوقت؛ التسلية بشكل دائم مثلما العمل أيضا بات يقتحم كل الأوقات، في هذه الفوضى تحديدًا التي تغمر أوقاتنا، يصبح التأجيل سمة أساسية للعصر، فكل فعل تقوم به هو بمثابة تأجيل لفعل آخر ينتظر دوره ويلح في طلب تركيزك وربما يسرقه دون إذن منك.

ربما كان التأجيل في صورته النمطية أمرًا مكروها، يوحي بالكسل وضعف الهمة، أما الآن فيبدو ضرورة لا بد منها، بل وشرط أساسي لإتقان الفعل عبر تأجيل فعل آخر يزاحمنا ويقلل من تركيزنا على ما نقوم به الآن، فعدم التأجيل يعني تراكم الأشياء في شكل لا نهائي، وهذا التراكم إنما سيقود الإنسان حتما للتوقف الكلي، والإحساس بالعجز، والاستسلام لليأس، فمن هذا الذي يقدر على مواكبة تسارع زمننا الحديث؟!

نحن نعيش في عالم مفاجئ، يربك ترتيبنا بشكل مستمر، فالخطط لا تجدي فيه نفع، وكذلك قوائم المهام مسبقة الإعداد، لأن السرعة القصوى التي يسير بها العالم الحديث إنما تذيب معها القوائم، وتحتاج لمرونة في إدارة الوقت. وهنا تثبت دراسة حديثة في مجلة علم النفس الاجتماعي أن هناك نوعا من المسوّفين والمماطلين، تطلق عليهم الدراسة مسمى المسوفين النشطين، وتثبت الدراسة أن هؤلاء المسوفين النشطين، يقومون باستخدام هادف للوقت والتحكم في الوقت بكفاءة عالية، وسر تفوق المسوفين هو أنهم لا يلتزمون بجدول زمني محدد ومخطط له مسبقًا، لذلك يكونون أكثر قدرة على التحكم في الوقت وإدارته إذا حدث أمر ما غير متوقع – ويا لكثرة الأمور غير المتوقعة في حياتنا اليومية الحديثة- لذلك هؤلاء الذين يؤجلون مهامهم بطريقة إيجابية، يقومون بتبديل التروس بشكل فوري والانخراط في مهام جديدة يرون أنها أكثر إلحاحًا إذا ما طرأ أي تغيير مفاجئ، وهذا ما خلصت إليه الدراسة.

 

 

استيعاب اللحظة الحالية    


تذوب لحظاتنا الحالية وتنقضي، فلا ندرك منها إلا طيف عابر، ولا نشعر بها إلا عبر زوالها. نضطر للتأجيل كأثر جانبي لا بد منه، بسبب ما تعتريه أوقاتنا من تكدس لأشياء فوضوية، يصعب التفريق بين المهم منها والغير المهم. التأجيل في عصرنا الحديث محاولة لتخفيف أعباء اللحظة الراهنة، وتقليل سرعة انقضائها، وثقب هوة في أفق مقفل، ليصل لنا الضوء والهواء المنعش، فكل تأجيل لما هو غير ضروري بمثابة وفاء لما هو ضروري، وإيمانًا بطبيعة الإنسان، الذي أبدًا لن يقدر على وضع علامة “صح” أمام كل مهامه اليومية.

يقول برتراند راسل “في الحياة الطيبة يجب أن يكون هناك توازن بين مختلف الأنشطة، فلا يجب القيام بأحدها إلى الدرجة التي تجعل الأنشطة الأخرى مستحيلة”

إذن الحياة السعيدة حياة هادئة، متوازنة، لا يطغى فيها مكون واحد على بقية المكونات، فهي مثل وجبة مثالية تعمل فيها عدة مكونات معًا بشكل متجانس ومترابط، فلا وجود لوجبة مشبعة وممتعة من مكون واحد فقط! حتى الماء على نقائه يتكون في جزيئاته الدقيقة من مكونين يتحدان بمقادير محددة.

لذلك يكتسب التأجيل معنًا إيجابيًا في حياتنا الحديثة، حيث يعمل كميزان تلقائي لضبط توازن الحياة، وإعادة ترتيب الأولويات وحمايتها من التشتت، فإذا كان التوجه ما بعد الحداثي يعامل الإنسان الحديث على أنه خارق، وأنه قادر على فعل كل شيء، ومع الاستعمال السلبي للتأجيل وكراهيته، تصبح اللحظة الحالية فوضى مثالية دون أيّ إنجاز حقيقي، وحتى لو تم هذا لإنجاز ستترك الإنسان في حالة يرثى لها من الإنهاك العصبي تحول بينه وبين الشعور بالرضا.

 

القلق من التأجيل

إذا ما ذكرت سابقًا أن كل مهمة نقوم بها هي تأجيل لمهمة أخرى، فهذا يجعل التأجيل شرطًا من شروط الفعل في عالمنا المزدحم بالمهام والمتخم بالطموحات والأهداف، والمأساة تكمن إذا ما أصابنا الهلع كلما أجلنا مهمة ما، وكأننا نرتكب إثما أو خطأ فادحًا، باعتبار أن التأجيل بشكله النمطي المعروف شيء مكروه.

هنا مكمن الالتباس؛ فأنت لا يمكنك أن تتحاشى الإرجاء، وفي نفس الوقت تشعر بتأنيب ضمير هائل كلما اضطررت لتأجيل إحدى المهام، ولا يكاد يخلو يومًا واحدًا في حياتنا الحديثة من التأجيل، لذلك من الضروري أن ننظر للموضوع بزاوية مختلفة. التأجيل رغبة خالصة لعيش الحياة بوتيرة مناسبة، لا لنحياها وفقط بشروط حداثية لا تناسب إنسانيتنا وتفسد إحساسنا بالوقت وبالأشياء، فالأصل هو أن تشعر بالفعل بكل حواسك، وأن تندمج فيما تفعله من مهام وأنشطة على اختلافها وتنوعها، ليس مجرد أداء الفعل لمراكمته وإنجازه السطحي.

نحن نصاب بالملل، وفقدان الشغف، واحتراق طاقاتنا بشكل كامل، لأننا نستهلك طاقتنا في أفعال باردة، تسرق الوقت، والتركيز، والهدوء، ولا تعود علينا بأي شيء سوى الإحساس بالقلق وتأنيب الضمير المزمن، فماذا لو أننا استخدمنا التأجيل لتقليل سطوة تلك الأفعال على لحظاتنا الحالية؟ فليس كل ما هو مُلحًا في طلبه تركيزنا يستحقه.

في النهاية؛ أدعوك أن تؤجل مهامك الباردة التي تزاحم حياتك لأجل غير مسمى، كن جريئا في التأجيل ولا تدع للقلق أن يسيطر عليك، التأجيل يتيح لك فعل ما هو مهمًا، وما سيعود عليك بالنفع، كما يحرر وقتك من الفوضى. فكل تأجيل لما هو غير مهم ومزعج، هو تعجيل لما يجب فعله في وقته.



22
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن العلاقات
يقترب العيد، الوقت السعيد الذي ننتظره لنجتمع بأفراد العائلة كلها ونحن في أبهى حلة، العيد حيث يعود الغائب ويرجع المسافر، تقترب المسافات وتنتهي الخلافات ويلتئم شملنا مع من نحبهم وتباعد الأيام والظروف بيننا وبينهم

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق
عن العلاقات
كنا نعتقد ونحن صغار بأن تكون كبير يعني أن تعرف كل شيء، أن تمتلك جميع الإجابات فلا تعجزك الأسئلة، لا تخاف ولا تتردد، تعرف الصواب دائمًا ولا تحيد عنه.

وقت القراءة المتوقع: 4 دقائق
عن السفر
سافرت كثيرًا، لكني لم أستمتع يومًا بغالب رحلاتي، لأنها كانت رحلات على النمط الحديث السياحي، مصنّعة وزائفة، حيث لا تنخرط في الثقافة على حقيقتها.

وقت القراءة المتوقع: 16 دقائق

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً