يقترب العيد، الوقت السعيد الذي ننتظره لنجتمع بأفراد العائلة كلها ونحن في أبهى حلة، العيد حيث يعود الغائب ويرجع المسافر، تقترب المسافات وتنتهي الخلافات ويلتئم شملنا مع من نحبهم وتباعد الأيام والظروف بيننا وبينهم. تبدو هذه الصورة حميمية ودافئة، ومثاليتها كابوس صغير يهدد سلام الكثيرين، لا سيما أولئك الذين لا يرتاحون في التجمعات العائلية. فهل يجب أن تشعر بالذنب إن كنت تعيسًا في أيام العيد؟
ضغط التجمعات العائلية!
في صباح العيد تنتشر التهنئات وصور التحضيرات والملابس الجديدة والعيديات، يبدو الجو لطيفا وسعيدًا، لكن تستوقفنا أحيانًا تغريدة ساخطة، قد يستخدم صاحبها هذا الشطر الشهير للمتنبي: «عيدٌ بأيّةِ حالِ عُدتَ يا عِيدٌ» للإعلان عن تذمره من حالة الفرح (المبالغة في وجهة نظره)، أو من التجمعات، أو من فكرة العيد كلها، نرى كاتبها “نكدي” خبيثا ومتنمرا؛ يتطاول على شعائر العيد ويجرنا نحو الشعور بالتعاسة معه، أو ربما نراه مغرورا، يتعالى على الشعور بالبهجة المنتشرة بين الناس، أغلبنا يتجاوز تلك التغريدات في صمت وينساها في زحام ألوان العيد، وبعضنا يرد عليها باتهامات النكد وعداء الفرح لكننا في الغالب لا نفهم ما يعانيه صاحبها.
علاقتنا بالعيد والتجمعات العائلية تتشكل من خلال بيئتنا وعاداتنا وطبيعتنا الشخصية، وحتى ذكرياتنا وماضينا وأحداثنا التي تكون وجهة نظرنا تجاه الأشياء، وهذا مربط الفرس، فقد يكون العيد مرتبطًا في لاوعي المتذمر بحادث غير سعيد؛ كوفاة الجد، أو هرب قطته، أو سخرية خاله من درجاته المتدنية في الاختبار الأخير أمام العائلة المجتمعة، أو تلف ملابسه الجديدة مثلًا. حدث واحد في عيد قديم قد يفسد علاقتنا بالأعياد كلها للأبد، دون أن ندرك. وربما الضغط الذي يتولد من رفض الشعور بعدم الارتياح، وفرض الفرحة المبالغ فيها عنوة على كل أيام الأعياد، هو ما ينتج عنه الإحساس بالتعاسة، إذ لا بد وأن تخيب آمالنا إذا كانت تلك الآمال مبالغًا فيها، ومفروضة علينا عنوة، إذ أنّه في هذا العالم السريع والمزدحم والمراقب لكل أفعالنا، يبدو الاختلاف جريمة، وما أسرع إصدار الأحكام في عالمنا الحديث، ربما هذا ما يعقد الأمور في الأعياد، فالسعادة الحقيقية عفوية، هادئة، غير متكلفة ولا مصطنعة. وهذا ما ناقشته دراسة في مجلة علم النفس اليوم.
كما تشكل تجمعات العائلة أحيانًا ضغطا هائلا للكثيرين؛ كونها تتحول لمساحة من التكلف الذي لا يستطيع الكثير منّا مجاراته، أو لأنها تتحول لمقارنة بينك وبين أبناء عمومتك وأخوالك ما يجعلك في النهاية تخرج من الجلسة العائلية وأنت غير راض عن حياتك وأحلامك وطموحاتك، أو لكونها تضيّق عليك مساحاتك المعتادة فلا تعود قادرا على الاختلاء بنفسك وممارسة روتينك المعتاد، أو لأنها كثيرا ما تنقلب لجلسة تقصّي الأخبار، وإن لم تحقق إنجازًا جديدًا؛ كالنجاح في دراستك، أو الحصول على وظيفة، أو شراء سيارة جديدة أو منزل جميل، أو الارتباط والزواج، أو النجاح في فقدان الوزن أو حتى اكتسابه، فأنت دون وعي ستشعر وكأنك لا تلبي التوقعات العائلية، وهكذا تصبح تجمعات العائلة في كل المناسبات ضغطًا، لكنها تزداد في العيد لأنه وقت عطلة ولا حجة لديك في عدم الحضور والتفاعل مع التجمعات. وأتخيل أن الأمر يزداد وطأة لدى النساء؛ كونهن يتحملن العبء العاطفي وحتى التحضيري المتمثل في الاستعداد للعيد، واستقبال الضيوف، وتلبية دعوات العائلة وحضور العزائم.
مواقع التواصل وسرقة العيد!
وفي عالمنا الحديث لم تعد التوقعات العائلية فقط، هي مصدر الضغط وإثارة القلق، فمع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، باتت هناك توقعات عامة، تتم مشاركتها، وتعميمها، وعلى الأغلب يبدو الناس على مواقع التواصل الاجتماعي مثاليين بشكل غير واقعي، ومع انتشار الخطط والتجهيزات، ونشر اللحظات التي تبدو شديدة التألق، تصاب أنت بخيبة أمل في عيدك، الذي ربما يمتلئ باللحظات المدهشة، والنِعم التي لا حصر لها، ربما هذا الهوس بتصفح ومتابعة منصات التواصل، يفسد علينا لحظاتنا، ويقحمنا للعيش في لحظات الغير، فنزهد في لحظاتنا ونرغب في عيش لحظات لأناس آخرين، تلك التي تبدو لامعة ومدهشة فقط أمام الكاميرا وفي لحظة التصوير والمشاركة.
لا تدع مواقع التواصل الاجتماعي تسرق فرحتك الخاصة بالعيد، فالسعادة فعل شخصي، يشعر به كل شخص بشكل مختلف، ومُغاير، وأن هذه المحاولات لتعميم الخطط ونشر التجهيزات المحددة، لا تلائم كل الناس، بل ربما الفعل الذي يشعر الآخر فيه بالسعادة، يصيبك أنت بالضجر.
كآبة الأعياد!
في الواقع، كآبة الأعياد شعور يشترك فيه العديد من البشر، ومن ثقافات مختلفة حول العالم، فقد أفادت جمعية علم النفس الأمريكية في إحصائية نشرتها عام 2023 أن حوالي اثنين من كل خمسة، تقريبا 41 % من الأمريكيين يقولون إنهم يشعرون بالتوتر أكثر خلال العطلات والأعياد، بينما قال 43 % منهم إن الضغط الناتج عن العطلات يتعارض مع قدرتهم على الاستمتاع بها، في حين قال 36 % إن العطلات تبدو وكأنها منافسة،
لذلك؛ لا تشعر بالذنب من شعورك بالتعاسة في صباح العيد بينما تبدو البهجة على الجميع، شعورك بالذنب سيزيد من تعاستك.
فقط، إذا أردت أن تسعد بالعيد، اخرج عن كونه منافسة، وابتعد عن المظاهر الاستهلاكية، وتزييف السعادة، واجترار البهجة، وتذكر أن السعادة أن تجد نفسك في الهدوء، بعيدا عن الصخب، والتفاخر، وإخفاء المشاعر، فهذا من النمط الحداثي، الذي يضفي التعقيد على كل الأشياء ويسلبها جوهرها.
خطة عاجلة لعيدٍ سعيد
1. اصنع عيدك الخاص
أعد بناء علاقتك بالعيد؛ تعرّف على الحكمة منه، واستشعر الفرح كونه أمرًا إلهيًا بالاستمتاع والبهجة والراحة، جرِّب شراء ملابس جديدة هذا العام، والمشاركة في تزيين البيت وخبز الحلوى، والمسارعة لصلاة العيد، والمبادرة بإرسال رسائل تهنئة للأصدقاء والزملاء والأقارب، ضع جدولًا للقيام بزيارات سريعة للأقارب؛ تصل بها رحمك وتستشعر العيد وتعيد وصل نفسك باجتماعات العائلة دون أن يكون اللقاء طويلًا لدرجة الخوض في تفاصيل أنت لا تفضل الحديث عنها، ولو كنت قادرا؛ امنح العيديات للأطفال، شخصيًا طقس التوزيعات بالذات يشعرني بالعيد:
2. قدِّر ما تملك، وأنس ما تفقد.
في التجمعات العائلية؛ قد تشعرك تعليقات أفراد العائلة بوهم أنه ينقصك شيئًا ما، في الواقع قد تكون على ما يرام، لكن نواياهم الطيبة تجاهك هي ما تجعلهم يرفعون سقف توقعاتهم منك، كلٌ حسب ما يتمنى لك ويراك، ولذلك ستبدو لهم متأخرًا في الزواج، أو مستمرًا في وظيفة لا تناسبك، أو أن طموحك أقل من إمكاناتك، في حين أنك مرتاح تمامًا في وضعك. إن وجدت نفسك تتشكك في حقيقة سعادتك بعد أحاديثهم، انظر لما تملك، تذكر أهميته وكن ممتنًا له، وفكر في جدوى ما يظن أفراد عائلتك أنك تفقده، وقرر ما إن كان بالفعل مفقود أم أنها نظرتهم هم، وأفكارهم هم. فطنتك لهذه الحقيقة ستخفف من شعورك بالضغط، وستمنحك مدى لابتكار إجابة محايدة مثل: معك حق، سأحاول البحث عن عمل جديد، سأقلل من وزني، دعواتك لي بالزوج/ ة الصالح/ ة.
3. اعتنِ بروحك؛ فهذا جوهر العيد.
انسحب عندما تشعر بالرغبة في العزلة، وعُد إلى بيتك ومارس طقوسك المفضلة، تذكر دائما أنك تملك حق الرفض المهذب للبقاء لدى الأقارب وقت أطول، أو حضور تجمع غير مريح، أو تناول صنف طعام لا تحبه. وضع دومًا في اعتبارك أن من حقك قول لا، هذا سيجعلك هادئًا وقادرًا على الاعتذار بلباقة تُقنع الآخرين وترضي بها نفسك، وترعاها.
وتذكر أن العيد لا يتطلب أن تضغط على نفسك، ولا هو مناسبة قد تتكرر فيها بالضرورة ذكرى سيئة، تعلم أن تثق بالفرح لتستشعره في كل الأحوال والأوقات، وحتى لو كنت تُفضِّل أن تبقى وحيدًا في العيد، كن سعيدا لأجلك أنت.