جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

في جمالِ أن تكون مشّاءً

المشي مرفأ الإلهام ووقود يحرك عجلة الرؤى والتصورات، هو ملجأ القلق، ومكتب الأديب، وراحة المتعب

وقت القراءة المتوقع: 8 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

بدعم من

وأنت تقرأ هذه الكلمات، غادر مكانك -فضلًا- وامش ببطء وسكينة، وتأمّل: ثمّة خطوات متتالية خلال مشيك، تقدّم فيها رجلًا وتتبع أخرى، تذرع رصيفًا وتقطع آخر، وتسير وفق إيقاع منسجم يتكرّر برتابة متناغمة، كأنّك تَنظُم عقدًا من حبّات الخرز، أو كأنّك تردّد أذكارًا في مسبحة شيخ مسنّ. هذا هو المشي الذي نعرفه، أليس كذلك؟ أم أنّه تغيّر مثلما تغيّرت الكثير من الأشياء حولنا؟ ما حقيقة المشي إذن؟ وما الجمال الذي يكمن في أن تكون إنسانًا مشّاءً؟ 

خطوات نحو معنى المشي

يُعرّف المشي في اللغة بأنّه الانتقال من مكانٍ إلى آخر سيرًا. ويزيد “لسان العرب” في لفتة جميلة أنّ “كلّ مستمرّ ماشٍ” وهنا مربط الفرس. المشي تعبير عن الحركة المستمرّة التي لا يخضعها أسر ولا يربطها قيد، سواء كانت لهدف أو من دونه، وسواء ارتبطت بغاية حياتية، أو لغرض التأمّل. وهو أنواع كثيرة، فالذي يمشي بخطوات متسارعة نقول أنّه يهرول، والذي يمشي بتكبّر وخيلاء نسمّي طريقة سيره بالخوزلى، والذي يمشي إلى الوراء لا يفعل شيئًا سوى القهقرى، لكنّ اللافت كذلك هو أنّ السّعي نوع من أنواع المشي أيضًا. 

المشي مرتبط إذن بالمحاولات الحثيثة التي نفعلها خلال سعينا اليوميّ، بالطرق التي نسلكها، والخيارات التي نلجأ لها، والخطوات الصغيرة التي نسير بها نحو حلم، أو أمل، أو معرفة. نحن نمشي، إذن نحن نسعى، إنّنا نحاول ونسدّد ونقارب. المشي يترك في أنفسنا شعور الطمأنينة بأننا فعلنا ما يجب علينا، بكلّ قدرتنا، وحاولنا حتى لو كان ثمّة أخطاء وإخفاقات وتعثّر؛ فالمهمّ هو أن يستمرّ المشي/ السّعي، وإن لم نصل اليوم فحتمًا سنصل غدًا. 

تأمّل معي الحُجّاج وهم يسعون بين الصفا والمروة، ينهملون بخطوات ثابتة في مجرى واحد مثل الجدول الصغير الذي يتدفق في نهر كبير، يسلكون الدرب ذاته الذي سلكته السيدة هاجر وهي تضع  الخطوة تلو الخطوة باحثة عن الماء لابنها إسماعيل، تسعى بيقين ثابت، وتمشي بخطوات متينة، محمّلة بأمل لا ينقطع. الإنسان المشّاء هو إنسان ساعٍ، إنسان محاول، شخص “هاجريّ” بامتياز. وهذه الخطوة الأولى نحو معنى المشي. 

المشي مرتبط بالحريّة، وهو كذلك رديف للبطء والتأمّل. بمجرّد أن يشرع الإنسان في المشي على قدميه، لن يكون حبيس موقعه، ولا رهين شبكة المواصلات، ولا أسيرًا للسيارة، ولا سجينًا للسرعة الفائقة التي نجري بها أمورنا. هذا الفعل هو نوع من التحرّر في عالمٍ يقيّد حركتنا، وهو السّبيل الأوحد نحو التفكير بروية، وتأمّل المشاهد، واقتناص الحكايات. 

يقول ابن سينا: “مسكنات الأوجاع: المشي الطويل والانشغال بما يفرح الإنسان.” المشي علاج لأوجاع القيود والسّرعة والتشتت. المشي يجعل نظرنا يمتدّ إلى ما يتجاوز دائرتنا الخاصة، وإطار السيارة الخاصة بنا، نتحرّر قليلًا من أنانيتنا، نشاهد الطفل وهو يلاعب القطة، ونحضر شجارًا بين اثنين حول أحقية صفّ الدراجة الناريّة، نسمع جميع المسبّات، ونصغي إلى كلّ اللهجات، نتأمّل أشعة الشمس المتلألئة وهي تتراقص فوق أوراق الشجر، نتفاعل مع الأشياء التي حولنا، وندرك الكمّ الهائل من اللقطات التي تفوتنا، نتلاشى في زخم هذه الحياة الحقيقية، نشعر أننا نمتلك العالم، ونشعر كذلك أنه أكبر وأوسع من أن نختصره في أنفسنا. 

المشي قنطرة تعبر الأفكار من خلالها إلينا. إنّ بقاءنا متسمّرين في مكان واحد لا يمكن له أبدًا أن يسمح للأفكار بالتدفّق نحونا. يقول نيتشه: “لا تصدق أيّ فكرة لم تولد في الهواء الطلق أثناء التحرك بحرية. الجلوس هو أكبر خطيئة” المشي مرفأ للإلهام ووقود يحرّك عجلة الرؤى والتصوّرات، هو ملجأ القلِق، ومكتب الأديب، وراحة المتعب. ولذلك يصف الفيلسوف الفرنسيّ “جان جاك روسو” حبه للمشي بقوله: “أنا لا أفعل شيئًا إلّا أثناء النزهة؛ فالريف مكتبي. إن مظهر الطاولة والكتب يشعرني بالملل، ومكتب العمل لا يشجعني، وإذا جلستُ لأكتب لا يحضرني أي شيء.”

لكن، أين غابت الأقدام السّائرة؟ 

عندما نتأمل في التخطيط الحضريّ لمدننا نكتشف بأنّ الناس لا تمشي! نعم، الناس لا يستطيعون المشي، ومعظم الطرق هي في الحقيقة مخصّصة للسيّارات. تُعرف هذه الظاهرة باسم الامتداد الأفقيّ (Horizontal Urban growth) حيث تفصل الأنشطة المختلفة، كالسكن وأماكن العمل والتسوّق والمستشفيات عن بعضها بشكل كبير، ويرتفع عدد الضواحي التي تنشأ فيها المؤسسات الصناعية أو المنشآت السكنية أو المولات الضخمة، وبالتالي تزيد المسافة بينها ويصبح التنقل إليها على الأقدام أمرًا متعبًا أو مستحيلًا. 

هذه المخططات تركز كذلك بشكل كبير على تطوير البنية التحتية للسيارات، كالطرق السريعة، والأنفاق والجسور، لكنّها تهمل بالمقابل إنشاء أرصفة عريضة للمشاة، ويصبح الحديث عن الحدائق الواسعة ذات الطرق الطويلة أشبه بترف. المدينة الحديثة قضت على مفهوم المشي، وجعلت أولويتها الفائقة للسيارات، في حين أن المدن الإسلامية القديمة -مثلًا- كانت نموذجًا صديقًا لفكرة المشي. 

كيف ذلك؟ الأحياء فيها متكاملة وتحوي جميع الخدمات الأساسية. تأمّل أحياء جدة القديمة، أو قصبات المغرب العربيّ، أو حارات الشام، ستجد المسجد، والمدرسة، والحمام التقليديّ ومختلف المرافق قرب بعضها البعض، وهذا ما لا نجده في المدن الحديثة التي تعتمد على تقسيم حاد للمناطق يجعلها متباعدة ومرهقة للوصول. المدن القديمة كانت تحتضن السوق الشعبيّ المغطّى أو المفتوح، الذي يمشي إليه الناس بكل سهولة وبساطة، أمّا نظيرتها الحديثة فتحوي مولات ضخمة واقتصادية لا يمكن إنشاؤها إلا في الضواحي البعيدة. أزقّة الحارات تكون ضيّقة ومثالية للمشي، لأنّ السيارات لا تصلها، على عكس الطرق الرئيسية التي تكون في الغالب غير آمنة للمشاة، وتضجّ بالمواصلات. 

نحن لا نقصد -بالطبع- ضرورة إلغاء المدن الحديثة بشكل كليّ، مقابل المدن القديمة، لكنّ مزجًا بين الاثنين بما تستلزمه متطلبات العصر، ويشبه روح الإنسان هو ما سيعيد إلى المرء فكرة المشي من جديد، ويسهم في عودة الأقدام السّائرة التي كادت أن تختفي. وبعيدًا عن تخطيط المدن، فإنّ اختفاء المشي يعود كذلك إلى تغيّر مفهوم الوقت والسّرعة، وتغير نموذج حياتنا بالكامل.

 إننا نجلس في مكتب العمل ثماني ساعات متواصلة، ثم نستقلّ حافلة الشركة، أو السيارة إلى المنزل، فنمضي بقية الوقت مسترخين من شدة التعب. وفي نهاية الأسبوع، نقضي أوقات الفسحة في المولات الكبيرة، أو المقاهي، أو في المنزل بكلّ بساطة، وعندما نذهب إلى صالات الرياضة التي تكون مغلقة وغير وظيفية، فنحن نقطع تلك المسافة عبر المواصلات. وفي غضون ذلك، يختفي فعل المشي شيئًا فشيئًا من حياتنا، وتختفي معه القدرة على التأمّل، والنمو الروحي، والعودة إلى الذّات، والاتصال بالعالم. 

غياب الأقدام السائرة يعود كذلك إلى اعتقادنا بأنّ السرعة ستوفر الوقت، وتعيننا على اللّحاق بمشاغلنا. لكن، انظر كيف يجيب “فريدريك غرو” صاحب كتاب المشي فلسفة على هذا المعتقد: “إن نهارات المشي البطيء طويلة للغاية، فهي تجعل الحياة أطول لأننا أفسحنا المجال لكلّ ساعة، وكل دقيقة، وكل ثانية كي تتنفس وتتعمق، بدلا من ملئها بإرغام المفاصل والضغط عليها. عندما نكون على عجلة من أمرنا، يكون الزمن مليئًا حد الانفجار، مثل الدرج المملوء من دون ترتيب، تتكدس فيه الأشياء.” 

توصيات لمشي أكثر خفّة.. وبلا تعثّر 

كيف يجب أن نمشي؟ التوصية الأولى تتعلّق بصفة المشي من الأساس. جاء في كتاب “زاد المعاد” لابن القيّم أثناء وصفه لمشي الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: “وكان أسرع الناس مشية وأحسنها وأسكنها”، فقد كان يمزج بين المشية التي لا تلتفت ولا تتلكّأ ولا تتمايل، وتلك الساكنة الهادئة. وهي مشية “عباد الرحمن” كما ورد في سورة الفرقان: “وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا”، فقد جاء في التفاسير أنّها المشية التي تكون بسكينة ووقار، دون تكبّر ولا خيلاء، إذ من غير المعقول أن نبحث عن نمو أرواحنا وتزكية أنفسنا عبر المشي، ثمّ نسلك ما يكون مفسدًا لصفائها، وآفة لها. 

التوصية الثانية شخصية جدًّا، أحبّها، وأتخذها كمنهج لي. يقول العارفون: “ملتفتٌ لا يصل، ومشكّك لا يفلح”، امش دون أن تلتفت وراءك، وافعل ما ستفعله من تأمل وتفكّر وتدبّر خلال انغماسك في محطات الطريق. لا فائدة من الالتفات، الالتفات آفة السّالك، والمضيّ قدمًا يبعدنا عن الكثير من المشتتات التي تحول دون التركيز على ما يخدمنا فعلًا. أحيانًا القصص الملهمة التي تستحقّ أن تروى قد تضيع منك في زحمة المرور وتفاصيل الطريق. 

وإذا أردت مكانًا مثاليًا للمشي، فقطعًا لن تجد خيرًا من الطبيعة. الطبيعة هي التوصية الثالثة. حاول أن تذهب إلى أقرب غابة إليك -ولو بالسيارة- وأطلق العنان لقدميك. سترى كيف سيجرفك تيار الطريق ولن تتوقف حينها. امش في الغابة وحيدًا، أو مع رفيق صامت، ودون هدف. ألق التحيّة على السناجب، والعصافير، وتبادل الابتسامة مع أشعة الشمس القرمزيّة، التقط مشاهد الطبيعة السينمائية، وتنفس بعمق شديد. 

لكن قبل أن تفعل كلّ ذلك، ألقِ عن كاهلك كلّ مشكلات العمل، ومشاريع المستقبل، وأقساط المنزل، وأحاديث العائلة. وهذه التوصية الرابعة، أن تتخفّف من كلّ شيء، وتلقي بنفسك بعيدًا عن المشتتات. أطفئ الهاتف واتركه في سيارتك. دعك من إشعارات الانستغرام، ورسائل أصدقائك، دعك من التقاط صور للذكرى، ونشر ستوريز عن نماءك الروحيّ بين الأشجار، دعك من كل هذه الترهات. خذ ورقة وقلمًا وسجل بشكل خفيف ما يتبادر إلى ذهنك، سجل هذه اللحظات الحقيقية جدًّا بينك وبين نفسك، هذه اللحظات التي تعيشها بعيدًا عن مرأى الجميع. 

أمّا التوصية الأخيرة فهي أن تواصل المشي. أن تمشي وحسب، كما لم تمشِ من قبل. 

27
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
3 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن العلاقات
كنا نعتقد ونحن صغار بأن تكون كبير يعني أن تعرف كل شيء، أن تمتلك جميع الإجابات فلا تعجزك الأسئلة، لا تخاف ولا تتردد، تعرف الصواب دائمًا ولا تحيد عنه.

وقت القراءة المتوقع: 4 دقائق

معنى أن تكون كبيرًا

عن النفس
هذه المبالغات في تقدير ثقل الكلمة تصنع لنا أناسًا مهوسين بانتقاء الكلمة و كذلك بالظهور بأعلى قدر من الأناقة مظهرًا وتصرفًا لكنهم فارغون تمامًا إن جئت لتبحث عن أفعال و إيثار وعطاء.

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق

أثر الكلمة

عن النفس
إن كانت الوحدة هي الوقت الذي نقضيه بمفردنا والذي لم نختاره، وبالتالي لا نقدره. فمن المفترض أن تكون العزلة نشاطًا واعيًا؛ نخصص لها وقتًا ونتعامل معها كتجربة بناءة.

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق

كيف نفهم العزلة؟

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً