العين ترى ما يريده العقل؛ لذا فإن العيش في حالة من الترقب لظهور علامات حمراء سيجعلها أكثر حضورًا ولو كانت وهمًا. مثل هذا الترقب يجعلك ترى كل شيء علامة حمراء، حتى تلك المواقف التي بالكاد تكون لونًا محايدًا. تكاثر الحديث في الأعوام الماضية عن إرشادات إنهاء العلاقات حتى بتنا نألف مفرداتها، ونتحدث هنا عن العلاقات الزوجية وعلاقات الصداقة، وإن كانت بعض الإرشادات تشمل العلاقات الأخوية والأبوية في نصائحها. تلك الإرشادات تتحدث إجمالًا عن علامات حمراء عرفت ب (Red Flags) لتكون نذير خطر لضرورة التوقف هنا وعدم الاستمرار في تلك العلاقة.
لا بد من قدر ضروري وواجب من الحكمة والفطنة لكيلا يكون الإنسان مغفلًا ويستمر في علاقة لا طائل من ورائها، إنما الفرق أن هذا المحتوى يجعلها سامة لعقل المرء فتؤثر تأثيرًا سلبيًا في طريقة تعاطيه مع أحداث اعتيادية قياسًا على العلاقات الأكثر عمقًا. إننا نمر بتقلبات مزاجية وظروف متعددة وزلقات لسان من الصعب التحكم بها تحديدًا عندما نكون مع أشخاص مقربين حيث نكون في أقصى حالاتنا تلقائية وعفوية.
يعتقد البعض أن الإنسان عندما يظهر بمظهر أكثر لباقة مع الغرباء فإنه يمارس النفاق أو يعطي الخير للخارجين عن الدائرة، إنما الحقيقة أننا نستطيع الظهور بأفضل مظهر لنا عندما يكون احتكاكنا مع الآخر وقتيًا وأكثر رسميّة وأقل عمقًا. فتلك الوجوه المتعددة للمرء مرهونة بالظرف والعلاقة والتوقيت، فالمرء في العلاقة الأكثر صحيّة لا يكون مطالبًا بأن يتأنق وأن ينتقي كل كلمة بشكل مبالغ فيه، فيخرج من جهد العالم الخارجي ليدخل في كبد العالم الداخلي.
إن التفسير الإيجابي لموقف رمادي أو لنقل أصفر ليأخذ مرحلة وسطًا ما بين الأخضر والأحمر، هو خطوة تأخذ العلاقة نحو الاستدامة؛ لأن التأثير السلبي كما نعلم يفوق بأضعاف مضاعفة الأثر الإيجابي. وعليه فإننا بحاجة ماسة لبناء ترسانة من الإيجابية لمقاومة تلك المنعطفات المحتملة بين شريكين أو صديقين. تلك العقلية الحمراء تلتهم كل شيء لتحوله إلى سام أحمر مشتعل وتجري بصحابها خطوات لهدم العلاقة.
ليس بالضرورة أن نطلب من الآخر تفسيرًا لكل حدث، لكيلا يرهق العلاقة كثر الحوار. وقد لا تكون جميع الشخصيات قادرة على عقد حوار على كل صغيرة وكبيرة دون أن يبقى في النفس أثر سلبي، لكن من الضرورة أن نجنح إلى التفكير الإيجابي حتى نضطر اضطرارًا للسلبي وبناءً عليه نتخذ الخطوات الأكثر صرامة لحماية ذواتنا لأن لها حق كما للآخر حق علينا.
يبدو أن الجيل الجديد سيكون أمام تحدٍ كبير لتبني فكرة العلامة الخضراء في ظل ارتفاع اهتمامه بذاته، إن لب العلاقة العميقة يكمن في أن الأنا والآخر تدخل في حالة من الانصهار، ليس كليًا بلا شك لكنها تتطلب حدًا أدنى من الكينونة الواحدة. ذلك أن العقل المتحفز لحماية ذاته والمترقب لاصطياد العثرات والعلامات الحمراء سينهي أي علاقة بما فيها تلك العلاقة المثالية قياسًا بعلاقات البشر، وسينتهي به الحال منظرًا حول العلاقات المثالية لكن دون علاقة واحدة. يقضي حياته منظرًا مصوّبًا ناظريه نحو علاقات غير موجودة إلا في وحي خياله.
الحقيقة أن الاستدامة لها ثمن، ولك أن تكتب كلمة استدامة في محركات البحث وتخرج لك المجالات التي يسعى الإنسان لتحقيق الاستدامة فيها وستجد كم الجهد والمال والوقت المستثمر لإخراج منزل مستدام، حديقة مستدامة وكوكب مستدام. لكن الثمن في العلاقة المستدامة بالنسبة للجيل الجديد أكثر من ذلك بكثير لأنه يتطلّب وقفة مع الروح والأفكار تجاه النفس والآخر. ويبدو ذلك في غاية الصعوبة في زمن يتجه نحو الفردانية والأنانية وتتلاشى مع أهمية العناية بالآخر. أن تتبنى العلامة الخضراء ذلك معناه أن تغفر أكثر، أن تتنازل كما لم تعتد من قبل، أن تبدأ النظر إلى الآخر بعين الأنا، وكأنك تنظر إليك. نظرة منصفة لا تجور عليه ولا تجور عليك.