جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

نحن نكتب لأن الزمن لا يعود

كم مرة أنهينا حديثًا مع أحد وبقينا نُردد بعدها "ليتني قُلت كذا..."؟ أو "ليتني رددتُ بهذه الطريقة"؟ وكم حكاية شعرنا أنها لم تنتهِ بالطريقة المُناسبة؟

وقت القراءة المتوقع: 5 دقائق
[gpd]

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

للاستماع للمقالة

بصوت:

محمد خوجلي

00:00 / 00:00

يقول دولوز إن المرء يكتب لأن شيئًا يسري داخله، أو أن هناك أشياء، والكتابة هي صيرورة هذه الأشياء. وكم هي الأشياء التي تسري داخلنا كنهرٍ جارف؟ وكم هي الأشياء التي تُحرّك المياه الراكدة في مستنقعات قلوبنا وعقولنا؟ لا بد أنها كثيرة في هذا العالم، لذلك نحن نكتب ونهذي ونحرر خيالنا. نهذي عن العالم والشعوب والسماوات السبع، ونكتب. نسمع الأصوات الآتية من أعماقنا، محملة بالمشاعر والرغبة، فنكتب. وأحيانًا لا تأخذنا الكلمات إلى ما هو أبعد من ذواتنا، فنكتب قصصنا ومشاعرنا، ونستسلم أمام سحر غريب يكمن في القبض على الكلمة المناسبة أو الوصف المناسب لما نشعر به! يُشبه الأمر اصطياد سمكة ذهبية في محيطٍ شاسع، فالكتابة فعل اصطياد الكلمات من معاجم اللغة، وهي ليست مجرد وسيلة للتعبير عن المعنى، بل هي شريكة في صميم العملية التعبيرية وفي تشكيلها، كما يصفها عصر ما بعد الحداثة.

الحُب يولد من استعارة!

أحيانًا، تَسبق اللُّغة شُعورنا ولا تكون مجرد نتيجة له. في روايته “كائن لا تحتمل خفته”، استخدم الكاتب ميلان كونديرا استعارة أسطورية متمثلةً في قصة موسى الذي أخرجته ابنة فرعون من السّلة في النهر، معبرًا بتلك الاستعارة عن انتشال الشخصية الرئيسية توماس لتريزا، التي يراها طفلة مهملة بحاجة إلى العون والاقتراب منه. وقد اتّضح خياله الخصب في الصور الفنية في روايته؛ إذ شبّه مشهد حبيبته التي تلبس قبعةً رجالية والتي رفعها عن رأسها بمن “يمحو شاربين رسمهما طفل عفريت على صورة مريم العذراء”. وقد عبَّر كونديرا عن أن الاستعارة شيء خطير لا يمكن المزاح فيه، مُبررًا ذلك بأن “الحب قد يولد من استعارة واحدة”، حيث يبدأ الحب في اللحظة التي تُسجَّل فيها امرأة دخولها في ذاكرتنا الشعرية من خلال عبارة. لذلك علينا أن نحذر أحيانًا من تعبيراتنا، لأنها تمتلك سُلطة علينا. كما قال حسين البرغوثي: “السُلطة التي يمارسها المُسَمى على الاسم فظيعة”.

الكتابة كفعل علاجي 

ما على نحوٍ علاجي، يعتبر عالم النفس الأميركي “جوشوا سميث” أن الكتابة وسيلة فعّالة تساعد الناس على ترجمة تجاربهم والغوص في أعماقهم. فالكتابة بمثابة عملية إغلاق للدوائر المفتوحة في حياتنا، وخياطة للجُروح النازفة. تقول المدرسة الجشطالتية في علم النفس إن سبب التوتر والقلق في حياتنا يأتي من الأعمال غير المُنتهية، من الكلام الذي لم يُقال، والأفعال التي لم نقُم بها، إذ أن هذه الأعمال غير المُكتملة تَبقى تَحفُر داخلنا باحثة عن خاتِمة، وفي طريق بحثها تَعبث فينا، وفي ذاكرتنا، ومشاعرنا، وحتى أفكارنا.

كم مرة أنهينا حديثًا مع أحد وبقينا نُردد بعدها “ليتني قُلت كذا…”؟ أو “ليتني رددتُ بهذه الطريقة”؟ وكم حكاية شعرنا أنها لم تنتهِ بالطريقة المُناسبة؟ كم مرة شعرنا أننا بحاجة إلى خاتِمة؟ وكم كانت هذه الحاجة مُلِحة في قصص الحُب الفاشلة؟ فإننا كثيرًا ما نشعر بعد نهاية قصة حب بأننا نُريد خاتِمة، نُريد إجراء مُحادثة حقيقية مع الشريك، نَحكي فيها عن مشاعرنا، نُبرر فيها ذواتنا، ونشرح أسبابنا. وبما أن استحضار الأشخاص ليس مُتاحًا دائمًا، وبما أن استرجاع المواقف مستحيل، يأتي دور الكِتابة لأنها تُساعدنا على إعادة صياغة المواقف بالطريقة المُناسبة وإعادة ترتيب وهيكلة الأمور والأحداث. إذًا، نَكتُب لأنه لا يُمكننا إعادة الزمن إلى الوراء.

وقد أظهرت إحدى الدراسات التي أُجريت في كانساس أن النساء المصابات بسرطان الثدي تعرضن لأعراض انزعاج أقل من غيرهن في الأشهر التي تلت قيامهن بالكتابة التعبيرية. وفي سياق متصل، لاحظ “بينيبكر” أن بعض أنواع الكلمات المستخدمة قد تغيرت على مدار الجلسات. فأولئك الذين التأمت جروحهم بشكلٍ سريعٍ كانوا قد بدأوا الكتابة باستخدام الضمير المتكلم “أنا”، لكنهم في الجلسات اللاحقة انتقلوا إلى قول “هو” أو “هي”، مما يعني أنهم باتوا ينظرون إلى الحدث من وجهات نظر أخرى. كما أن استخدامهم لكلمة “بسبب” يعني أنهم كانوا يفهمون الأحداث ويضعونها في سردٍ معيّن.

القبض على الكلمة المناسبة

بفترة ما، كُنتُ أجرب أن أساعد بعض الأصدقاء في تجاوز مشاعرهم السيئة من خلال اختيار الكلمة المُناسبة التي تُعبر عن هذه المشاعر. فالكلمة هي تكثيف لما يشعر به الإنسان. في إحدى المرات، جلست مع صديقتي لما يُقارب الساعة لنَجد الوصف المُناسب لما تشعر به تجاه مُديرها في العمل الذي فصلها فصلًا تعسفيًا. بدأت تقول إنه خذلها، فقد قدمت الكثير من المجهود في هذه الوظيفة. سألتها: “هل كلمة خُذلان هي المُناسبة أم أنها غير كافية؟” فقالت: “ليست كافية.” فقلت: “التَخلي؟” فردت: “ربما.” وبعد بحث وصلنا إلى صيغة نهائية، إذ قالت: “شعرت وكأنه قذف بي من الطابق العاشر ولم يتكلف عناء الإطلالة بعدها، وكأنه لم ينظر إلى الأرض ليرى ما حَلّ بي.” أتذكر أنها بكت كثيرًا بعد وصفها هذا، وكان البُكاء يُشبه بُكاء الإدراك لسرّ ما، سرّ لن تعود الأمور بعده كما كانت. فالكتابة أيضًا علاج للصدمات النفسية! تتشكل تلك الصدمات من ذكريات مُبعثرة وغير مُتسقة وغير مُتسلسلة وتجاوزها يَكمُن في إعادة تنظيمها وعنونتها في العقل.

ويبقى فعل الكِتابة سحرًا مُبهمًا، وتبقى اللُغة والكلمات مفاتيح هذا السحر.

23
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
5 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن العمل
لذلك للعمل ميزان حساس، فالإفراط به يتحول لهوس يصعب التخلص منه، والانفصال التام عن العمل وغياب المعنى فيه يصيبنا بالارتباك والإحساس بالفوضى والفراغ.

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق

العمل ليس نفيًا للحياة

عن النفس
اغمض عينيك لوهلة، استحضر أكبر مخاوفك، واقرأ، أعلم أن الأمر سيكون مزعجاً وخانقاً، لكني حقاً أحاول أن أكون قريبة منكم في كل فكرة أكتبها وأشاركها..

وقت القراءة المتوقع: 30 دقائق

لا تقولي أنك خائفة..

عن المدينة
عندما نقارن بيوتنا اليوم بالماضي، نتذكر تمامًا استماعنا إلى الأصوات التي يصدرها البيت حتى عندما يكون خاويًا، وكأنه يتنفس بحياة خاصة به، صرير الأرضيات، خرير المياه، وحفيف الشجر.

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق

دساتين الألفة

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً