لـ مهدي بن حسين
يصطدم الآدميُّ بمسوغات العيش وتوقعات الطفل الذي كانه. فينفق ذاكرته وآدميّتهُ حتى يقتنع بجدواهُ ككائنٍ وُجِدَ ليفنى أو ليثبِّت أثره المتلاشي مع كل صرخةٍ للريح أو بكائيةٍ سنويةٍ للغيم.
لم يعد إنسان اللحظة، أعني هذا الذي لا يدري أحيٌّ هوَ أم لا؟ مالذي يثبت ذلك؟ جسدٌ متكومٌ على الجانب الأيمن للسرير، قدمٌ ترتعش وحزنٌ مكثف. كانت لحظةً سامّة تلك التي ساهمتْ في تعرق جلده وتعرفه للمرة الأولى على المعنى المختزل للحزن المشوب بالهلع.
الوجد: المرحلة المتقدمة للحزن العميق، القلق المشحوذِ بالخيبة ومتعلقات الأمل. ها هو إنسان اللحظة المستجدة، العالقة هنا منذ مدةٍ كافيةٍ لتغيير جغرافية الأرض أو نحت الجبال من جديد. لكنه أَرغمه السكوت المقرونُ بنضجه على الوقوف هنا، والآن يُشَبَّه لهُ أن القلق فرصةٌ للبحث عن معنى وأن الهذيان المنسكب على الورق شعر.
يبدو هشًا حدَّ يقينهِ بهلاكه أو فلنقل حدّ يقينه أنه مؤهلٌ بما يكفي ليفنى قبل الآخرين. إنه مُنهكٌ أيضًا، لكنه يُنبِّهُ الأرضَ للياقته الفائقة رغمَ أنه يشعرُ بالخواءِ، يُربّتُ على الظلال، ينتقد أشعة الشمس، يُصغي لأجنّةِ العصافير، يوبخ الغيم ويقوّم مشاعر الأغصان المائلة. اقترب مراراً من “المنيّة” غير أنه كان يُسندُ غصنًا نديًا بقربها فيحولها لأمنية. هكذا يحاولُ اختبار القدر دون أن يُخل بالتوازن المُقترح من قبل الطبيعة.
رُبما لعدةِ أسبابٍ يقفز إنسان اللحظة بين المشاعر المنقبضة والمنبسطة دون أن يُدوِّن ذلك في خزانة الذاكرة. إنها حالةٌ من التصادم المحمود بين كينونتك كآدميٍ متلهفٍ للاستقرار، وبين التواتر المستمر لمادةِ الشغفِ المرتبطة بالحزن المنشغل باستمرارٍ بعملية شحن النفسِ بالأُلفة. نعم إنه حزنٌ أليف أو رُبما مُؤجل، وشغفٌ مستجد يحاول فقط شغر المساحة الضئيلة في جسدٍ بائس، وروحٍ معطلة لغرض البحث عن سببٍ أكثر حميمية للبقاء.
ينتقلُ إنسان اللحظة بين جنبه الأيمن والأيسر، يستقر على ظهره، يتكئ على باطن كفه ثم يستأنفُ النشيجَ ويبدأ بعذاباته النّشاز حتى يلتفت لشغفه الظاهري. يكتبُ على ظاهر كفهِ «ماذا بعدُ؟» ثم يرتدي أحد أقنعته الثلاثين، يتأنق، يتركُ خواءهُ على السرير المنتصب أمام المرآة التي تذكره بأنه حيٌّ حتى الآن ويخرج. ينظر في الأفق المتدلي على شفاهه، يمسحُ بظاهر كفه وجهه ثمّ يقتلع عيونه ويلعنُ الشغف الذي تسبب بخروجه لهذا المأزق الكبير. مأزق البحث عن ذاته الموقوفةِ للسرابِ وأغلفةِ الكُتب وأيّ تعبيرٍ عن الماء. يكشفُ عن وجههِ بما يليقُ بظاهر شغفه المُعلن، يعلمُ تماماً أنه لن يقدِر مجاراة هذا الكم من اللهاث المتكرر على قرص الشمس، فقط لأنه أصفر.
لكنه لا يفقدُ صوابه، يعتني بألفاظه، يقاومُ الكلمةَ لتخرج ثم يُتأتئ. يعلمُ أن وقودَ قلبهِ مخلفاتُ الكلمات الناقصة، والنظرات القاصرة عن التعبير، وتنهيدةٌ مستعملة، وتهويدةُ أمٍ جديدة وتوسلات طفلةٍ بجيناتٍ مستفزة.
من المهم جدًا توثيق الحزن وإعادة الاشتغال به جنبًا إلى جنب مع الشغف، فالحزن غالبًا ما يكون دافعًا لتغذيةِ تجربةِ الإنسانِ وتكوين صورةٍ مغايرة لعمله الإبداعي، وتجريد انتمائه الذهني من متعلقاتِ الجذور والترسبات المضطربة.
ما تحتاجه هو الحزنُ فقط، حزنٌ خام دون أي دوافعٍ أو ضماناٍت أو قيود، حزٌن يليق بهذه العُتمة النهارية والتصدعات المزاجية، حزنٌ صارخ يكفي لتدمير الأبيض المتراكم الذي يُدعى تفاؤلًا.
إنسان اللحظة يتفوقُ على حزنه، يعارضه، يُلخصُ شقاءَ وحدتهِ وتبدد مصطلح السُبات من حياته، بلغةٍ تختزل الحالةَ الرائجة لأسلوب الحياةِ القاصر عن تفهمِ حالة الفزع الجماعي. ماذا اقترف إنسان اللحظة؟ غيرَ كٍم هائٍل من التعاطي مع فرٍح مستهلك، ونظرٍة عارمة البهجة للمستقبل، وهوَ ينقص قلبهُ كل يوم والعالمُ غيرُ آبٍه بأمثاله، الذين استسلموا لحقيقةِ وحدتهم وتنبهوا لفوضى العالم، فاختاروا الصمت وخبئوا أحاسيسهم، وادخروا ألفاظًا نابيةً للغد ولم يغضبوا، أجلُّوا غضبهم، كانوا هامشًا مُدربًا على الإصغاء، وعندما تعلمَ الجهرَ بكسره، تفاقمت الحسرةُ داخله وانحسرَ الأمانُ بصدرهِ لكن لم يستجب أحد.
كانت كلّ جراحات الأرض أوسع من جرحه، كانت نداءات الأرض مُستساغةً أكثر من نداءاته، كانَ يستغيثُ فلا يجيبهُ إلا حفيف الشجر وثبَت من صدره على حنجرته.
اسمحوا لهُ أن يتكسّر، أن يفقد شغفه حتى يعرفُ تمامًا كيف يواجهُ حزنه، كما تعرفونَ كيفَ تزاولون فرحكم المهترئ.
لكنه حزنٌ مُبرر، حزنٌ يخلق الفكرة من مِدية الألم وتضعضع العزم «فالحزن للقلب، كالسكن للبيت». لابد للفكرة الفنية أن تعبر خلال الحزن، أن تزدحم بتفاصيل الدمع وأسراب الكآبة المكتظة .إنه يدفعك دفعًا نحو الكتابة والرسم والغناء.
إن الحديث عن الحزن ليس ازدراءًا مباشرًا للفرح بل على العكس فالفرح والحزن قيمتان ثابتتان لا تجتمعان ولكلٍ منهما ثورته الخاصة التي تُصدرها المشاعر.
لذا فلنتعامل مع الحزن المعلق على عيوننا تَعامُل النَّهام مع الرياح العاتية في قلب البحر.