جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

أنت تراني إذًا أنا موجود
29 أيلول
النفس والعاطفة

أنت تراني إذًا أنا موجود

29 أيلول

|

النفس والعاطفة
بدعم من

ما أكثر جملة يقولها طفل لوالديه حين يفعل شيئًا باهرًا في نظره؟ ما أكثر ما نريده من الناس حولنا حين نسعى لفعل جيد؟ ما أول ما نفعله حين نظن أن أحدهم حصد اهتمامنا؟ 

أكثر جملة يقولها طفل «ماما بابا شوفوني» بجميع اللغات، وما نسعى له هو أن يرانا مَن نريد لهم الرؤية في حق إنجازنا، وما نظن أنه حصد اهتمامنا فإننا نلفت له النظر، وما نظن أنه صواب هو «عين النظر».

كل ما نحصد به اهتماماً ورغبةً بالوجود، هو البصر، تلك الحاسة التي تجعل من وجودنا حقيقة، هي التي تحقق وجودنا، تصنع منا صورة حية لها روح وكيان واقع يتم الإحساس به.

قبل مدةٍ كنتُ أناقش صديقةً عن أحد العناوين التي كتبها بسام حجاز في «معجم الأشواق»، وقبل أن أحكي عنها، فإن علاقتي ببسام حجار هي علاقة رقيقة، فالأعمال الكاملة لبسام هي أول ما اقتنيته عند أول راتبٍ لي. لبسام حجّار قدرة على الانتقال بين موضوعات تخص كل واحد منا بهدوء وسلاسة.

فهو يبدو كصديق يجلس معك على مقعد حديقة الحي ويحكي معك عن كل تلك الأمور التي تحصل، علاقة الصداقة التي يندر أن تجدها في زحام حياتنا اليوم. لي مع كل قصيدة ومقطع نثري ورواية ترجمها حكاية، فبشكلٍ أو بآخر لا أبحث حقًا عن شيء يشبه ما أعيشه، لكن أبحث عن شيء جديد لأعرف شعوره أو ما الذي يقصده، أنظر بهدوء لأفكاره التي قد تعبر عن أحدنا لكنه لا يجيد صياغتها، وكأنه يصيغ أفكارًا ومواقف لم نعبر عنها بالشكل الصحيح. 

في الصفحة السادسة عشر من «معجم الأشواق» كتب بسام قطعةً نثرية شاعرية جدًا بعنوان «يراك المُحب، يجعلك موجودًا» في تفسير نحوي، ستُعرب الكلمات على أنها جملة لجواب شرط، فرؤية مَن يحبك لك هي واقع وجودك ومرئيتك. 

قبل مدةٍ خضتُ نقاشًا مع صديقة حول هذه العبارة، كنت أشرح لها فكرتي، وأشرح لها اعتقادي بأن بسام كان يقصد الآتي، وأتمنى المغفرة من محبيه لأني أفسر على هواي ما أظنه يعنيه.

الأمر أشبه بأن تكون ذرة صغيرة تائهة أو زهرة صغيرة في بستانٍ شاسع، حيث تفتقد مَن يراك، مَن ينظر إليك، مَن ينتظر رؤيتك، حيث تكون في حالة من فقدان الذات، فقدان الصورة التي تبحث عنها في نفسك، تكون في حالة غياب ذهنية، ربما يكون شعورًا محدودًا بوقت قصير أو لجزء من الثواني لكنه واقعي، فحين نحب الحياة والناس من حولنا أو نشعر بالحب من الناس، عائلتنا، أصدقائنا، أحبابنا وشركاء حياتنا، نحال للصورة التي نحبها حول من نحب، نُحال لصورة الحضور التي نبحث عنها. فالصورة ترتبط بالعين ولا أعتقد أن هناك صورة أرق وأعذب أكثر من عين محب تراك، من عين تحبك تنظر إليك، من عين محب تتطلع إليك. 

ذلك الشعور بالوجودية يرتبط باللغة، بالتصرف الوحيد هنا، بالنظر وشعور أنك تُرى، فعين المحب هنا هي بصيرة لغوية وحسية، إنها العين التي يبحث عنها جميعنا لتكون في أبهى صورة لها، فالعين تبصر لتخلق الشعور الذي نعكسه، فهي فكرة مرتبطة بالقبول الذي يجعل من تواجدنا حقيقيًا وموجودًا.

عين المُحب أياً تكن تجعلك في صورة الوجود التي تبحث عنها، عين المحب هي الحالة التي تنقلك من عدمك وضياعك في جموع متكررة وحشود متراكمة ومتزاحمة إلى شيء أشبه بضوء أو أسطورة أو حتى وردة مفضلة أو أشبه بكل الخيارات التي يفضلها الإنسان، تحولك لرقصة أو سيمفونية أو أغنية لا تُمل.

إن عين المحبوب هي المقياس الأكثر صدقًا لفلسفة الوجود في حقيقة الارتباط والاشتراك بأولئك الذين ينظرون لنا ويتطلعون نحونا.

فكر معي الآن للحظة، كيف شعرت يوم تخرجك عندما نظر إليك أحد والديك؟ كيف شعورك حين ينظر لك أشقائك الأصغر سنًا كمثل في أمر حميد؟ أو فخر أحد أخوتك الكبار بإنجاز صنعته، فكرة النظر، أنه يراك، ذلك الآخر بكيانه الكامل. 

يربط بعض رواد علم النفس أو حتى المهوسين بتحليل العلامات والتصرفات ومنذ الأزل المحبة بمحاولة الآخرين للنظر إلينا، حين تبحث في محركات البحث أو تسأل أحدهم «كيف أعرف عن محبة فلان؟ أو كيف أعرف أن أحدهم مهتم بي؟» يأتي النظر أو فكرة أن أحدهم ينظر لك ويتتبع وجودك كمقياس حقيقي لجودة الشعور. 

اليوم حين أفكر، أظن أن كثيرًا من تصرفاتي كانت مدفوعة برغبتي بأن أجعل من أحب يراني في أحسن حال، أن رؤيتهم لي تجعل الأثر يتحقق، وأن ما صنعوه من فعل الرؤية هو ما جعل كياني يتحقق ويتشكل بهذا الشكل، حين أنتظر والدي لأخبرهم عن أمر ما فإني بالمقابل أتتبع رؤية ما يشعرون به، فعل مباشر يثري حياتنا كنعمة، كتصرف يحيل ماديتنا لروحانية كاملة تربط كامل رغباتنا وأحاسيسنا.

إن البصر والحواس عامة هي أدوات تساعدنا على الإحساس واستشعار حسية الأشياء ووجودها كشيء، كمادة، ككيان، كاستشعار تام النواحي لفهم أعمق، قد تنطبق إحدى الحواس على مادة دون غيرها، وقد تنطبق كل الحواس على مادة واحدة، الحواس ركيزة من ركائز الإنسان التي يعتمد عليها في حياته كوسيط بينه وبين كل تلك الأشياء الأخرى. لذا فإن توظيف الحواس كجزء شاعري من لغة جسدنا أو تصرفاتنا المعهودة والمستجدة هي تفسير منطقي لمحاولة إيجاد وسيط شعوري يحدد لنا عمق الموقف والشعور، فالحواس وسيط يعمل كمترجم والانفعالات التي نمر بها. لذا نجد الحواس عبرت من مرحلة الأداة البحتة لتصبح أداة مجازية تارة وتحاول لفعل شاعري وأمر يقيس خيالاتنا ورغباتنا ويحقق أقصى قوة شعورية في مواد مختلفة مثل الأدب والشعر، تنال الحواس في الأدب مختلف الأبعاد ساكنة كانت أو متحركة، سواءً كانت أداة أو مفعول به يشعر بحاسة أخرى، فالحواس لغات مرتبطة بيننا وبين الآخرين في غياب الحديث، والحديث هو كلام يكمل حواسنا الأخرى ويجعلها في صورتها المُثلى التي يستطيع البشر إنجازها، فكانت هي نقطة التعابير ومحرك أساسي لاكتشاف الكثير. 

إن تعريف الحواس كحقائق شاعرية قد يجعلني أتطرق لفكرة تعريف الشعرية نفسها للانتقال للشاعرية وتشعباتها، ورغم أن الشعرية لغة مقتبسة من كلمة الشعر وهو ما له وزن وقافية ورغم تغيرات الشعر عن الوزن والقافية وعلى أن الشعرية كلمة مقتبسة كتشعب جمال من فن الشعر، أجد أن الشاعرية هي تلك التصرفات أو الأفعال التي ينتج عنها شعور يأخذنا نحو بُعد آخر، حقيقة الإحساس بسديم يُخلق داخلنا، مشاعر تُبنى لتحتل مجرة كاملة من أجسادنا، فالشاعرية هي أكوان صغيرة تعشعش داخل كل منا وتصاحب تجاربنا متفردة ومتجمعة.

أجد نفسي أبحث ببصري أولًا، وأحث عيني على إيجاد والدتي في جمع غفير، أو البحث عن وجه مألوف في الزحام، أنزوي نحو الملامح التي تنقلها عيني لبصري، للنظرة في عيني الآخرين التي تحقق لي معنى الأمان، ننزوي لركن قصي في آخر حفلة مكتظة لوجه يألف قلوبنا ونألفه، نأخذ ابتسامة الغريب ذي النظرة المريحة على محمل التفاؤل، ونظرة شخص يرهبنا على محمل التشاؤم، ننتظر ننتظر وننتظر دوماً أن يرانا من نحب.

تأتي ثقافتنا شرق الأوسطية وثقافتي الكردية والجانب العربي الذي أعيشه بعديد من معاني النظر، في الأغاني والأشعار، فالعين هي مصدر الغزل، والنظر هو رغبة المحب وجزل قلبه، ينبت الشعر عندنا من النظرة، وتصاغ الأغاني من عيون المحبين، يجعلنا البصر ذوي كيان موجود، ينقلنا لواقع رؤيتنا لفعل حسي نمارسه ونفتعله. 

فكانت العيون مصافحة، وشعرًا، وعتبًا، ومحاولة وصل، ورؤية، وفخرًا وألمًا، وتعبيرًا عن التقدير، وتأكيد المحب على الغرق، يترنم جيل كامل بأغانٍ تحوي النظر والعيون في فحواها. يتشارك الجميع فكرة البصر كمكون أساسي من حياتنا، وكأنها لغة خاصة.

وبعيدًا عن الشاعرية فإن النظرات كانت لغة مستمرة بيننا وبين أمهاتنا، نظرة التهديد والوعيد في حضور الضيوف، نظرة إحضار الطعام، نظرة الخروج من الغرفة حين تتحدث، نظرتها فوق سجادة الصلاة، للانتباه للقدر الموضوع في المطبخ على عين الفرن، كانت لنا لغات، فالنظرة للجدة استنجاد، وللخالة رأفة، وللآباء فخر، وللأخوة قدوة ورغبة بتقديم كل شيء.

نبني نصف حياتنا على التوقعات المبنية من تلك النظرة، مما تخلقه لنا من صورة، من قدرة تلك النظرات على اجترار رغبتنا بالعيش، تلك النظرات هي وقود عيشنا، وقوت قلوبنا التي تساعدنا على الاستمرار. 

فأول الحُب نظرة، والوداع نظرة عالقة، والفراق نظرة مُنكسرة، والفخر نظرة معتزة، والشوق نظرة طويلة تغص في حلقها، والحزن نظرة كسيرة، نعيش لنستكشف أنفسنا من أبصارنا، لنخرج من بُعد الحاسة والمادة، لفكرة أننا مخلوقات شاعرية نتكون من الشاعرية وفكرة أبعد من المادة المرتبطة فينا والمتأصلة بين أطرافنا، نحن تلك النظرات العالقة، القصص التي تتخللها عبارة «لسا أتذكر النظرة، ما أنسى كيف اتطلع فيي، مش قادرة أشيل من دماغي نظرتو، ما كسرني غير النظرة، رحمته من نظرة عينه»، سلالة من النظرات والأبصار شكلتنا. في النهاية، أي نظرة لا تزال عالقة؟ 

 
19
0
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

قصصنا حصوننا
8 كانون الأول

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 7 دقائق
التوقعات‎ ‎وبناء‎ ‎العلاقات
22 حزيران

|

العلاقات
وقت القراءة: 4 دقائق
الفن يجعلنا نتنفس بشكل أفضل
15 أيلول

|

الفنون والإبتكار
وقت القراءة: 6 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً