أن تعيش في وطنك، لا يضمن لك حلولًا سحرية لكل مشاكلك، لكن أن تكون بعيدًا عن وطنك، عن أرضك، جذورك حيث تعود أصولك، شعورٌ واحد سيظل يلازمك؛ ثمّة شيء خاطئ في كل شيء.
تراب يحن للتراب
خُلق الإنسان من التراب، والأرض التي ينتمي إليها أيضًا من تراب، ولا شيء يشبه ارتباط التراب بالتراب، تناغمه، وتداخل ذراته، وتجانس مكوناته. لذلك يحن الإنسان لأرضه، حنين التراب للتراب. والأرض كقطعة متجانسة تعبر عن هوية وتراث وطقس وهيئة تتناغم مع الإنسان، تكمله ويكملها، وإذا فقد الإنسان وطنه اختل هذا التناغم.
كل الجذور لا يمكن أن نغيرها
حينما نتحدث عن الجذور، نتحدث عن أجدادنا وأجداد أجدادنا، ذلك الامتداد الذي يضرب عميقًا في أرض ما، يتوغل فيها ويتوحد معها، لا يمكن للأوراق أن تختلف تمامًا عن طبيعة الجذور، لذلك الإنسان محكوم بسلالته تلك التي يتوارث منها جيناته المسؤولة عن تكوينه الجسدي والفكري، نحن نتاج جيناتنا عبر امتداد من الأجيال، تلك الأجيال التي تشكلت ذاتها واندمجت من المكان التي عاشت فيه وامتدت جذورها عبره. لذلك ارتباط الإنسان وتعلقه بوطنه هو ارتباطه وتعلقه بذاته. وهذا يلخص هوية الإنسان التي يكون الوطن جزءًا أساسيًا فيها، بجانب عددٍ من المكونات الأخرى.
الوطن هو كل شيء تعرفه، ويشكل جزءًا من شخصية الإنسان المتوارثة عبر أجيال من الأجداد تشكلت ذواتهم من الوطن؛ حيث الطقس والعادات والتقاليد والمفاهيم وصفات وتراث وأسماء ومناطق وأساطير وحكايات وقضايا وحقوق، كل هذا شكّل وجدانك المتوارث عبر مئات من السنين، لذلك كل الجذور لا يمكن أن نغيّرها، فتظل أوطاننا باعتبارها أرض الجذور الأولى، هو المكان الملائم لذاتنا، يمكن أن تتأقلم عبر سنوات طويلة في حياتك في أرضٍ ليست أرض جذورك، ولكن لن يمكنك أبدًا تغيير جيناتك المتوارثة، وسيرة أجدادك التي شكلت وجدانك، حتى لو لم تزر أرض الجذور مطلقًا فذرات ترابها سرتْ في دماء أجدادك والتي هي دماؤك.
اغتراب الإنسان
لا يستطيع الإنسان أن يعبّر عن نفسه بشكل مباشر، يحتاج لوسيط يساعده على فهم ذاته والتعبير عنها من خلاله، ومن هنا يكتسب مفهوم الوطن أهميته الإنسانية، فالوطن هو تعبير الإنسان عن ذاته، بدون ذلك التعبير يغترب الإنسان عن نفسه. فالإنسان هو نتاج كل ما يدور في وطنه من علاقات بين الناس، وأحداث وظواهر طبيعية، والوطن ليس مجرد مكان محدد، بل تاريخ ممتد وثقافة وطاقة شعورية يتسم بها الإنسان. لذلك اغتراب الإنسان عن أرضه اغتراب عن الذات. وليس الاغتراب هو البعد المكاني فحسب، ربما تبتعد عن أرض الوطن، وتأخذه معك في كل مكان، تحمله بداخلك، يشغل تفكيرك قضاياه، فتعبر عنه ثقافيًا وفكريًا أينما ذهبت، فلا تشعر بالاغتراب مهما ابتعدت عن الجذور، لأنك تحملها بداخلك. يغترب الإنسان حينما يحاول اجتثاث جذوره، واكتساب جذور جديدة، وهو أمر لا يمكن أن يحدث أبدًا، فيعيش في تلك المساحة الرمادية وفي اغتراب موحش عن ذاته، حتى لو كان في أرض وطنه، حينها يعيش الإنسان كقطعة «بازل» محشورة في رقعة لا تشبهها.
شعور غير قابل للتزييف
المتأقلم في وطن غير وطنه لا يكون أبدًا مواطنًا حقيقيًا، نعم قد يتأقلم الإنسان حينما تتوفر له سبل حياة كريمة في أرض أخرى، إلا أن ذلك لا يؤّمن له التناغم الحقيقي بين ذاته والأرض، وأنه ما من شك أنه سيعود لأرضه تحت وطأة حنين جارف، مغناطيس خفي، يجذب الأصل لأصله. المتأقلم يحن دائمًا لأرضه، وإن لم يدرك سبب ذلك الحنين، يعيش معذبًا تحت وطأة حنين لشيء يجهله.
في تلك الحياة الحديثة، والتي تمتليء بالزيف، واصطناع المشاعر، حيث عصر العولمة والانفتاح، وأن كل شيء يتغير من مكانه لمكان آخر، حتى بدا كل شيء في غير موضعه الصحيح، يبقى ارتباط الإنسان بأرضه شعورًا عصيًّا عن التزييف، وأن كل شيء يُستورد إلا اتصال الإنسان بأرض جذوره، لأنه وببساطة؛ شيء متوارث منذ مئات السنين، وأن الإنسان الحالي الذي يعيش فوق الأرض هو نتاج بشر عاشوا وصنعوا تاريخًا وثقافة عبر سنوات لا حصر لها، وأن الإنسان الذي ينتزع من جذوره ويلقى في أرض أخرى لا يمكن أن يتعامل معها على أنها أرضه الحقيقية، مهما أدعى غير ذلك، إلا إذا تحول لذراتٍ أولية، وأعيد تشكيله ذرة ذرة من جديد.
ومثلما يقول فيلسوف التربية ماتياس بورشارت «طرد الناس من وطنهم هو جريمة بحق الإنسانية» نحن نعيش في عالم حديث مزيف، حيث لا أهمية للمكان، وطيلة الوقت يُدفع بالإنسان لتهميش قيمة المكان، وتجريد الأماكن من هويتها وكل ما يميزها، فنرى الأماكن الجديدة صممت بطرز معمارية يجعلها رمادية، منزوع منها أي معنى، وذلك من أجل صناعة بشر بلا جذور، يستطيعون الإنتاج في أي مكانٍ وتحت أي ظروف، حينها يتحول الإنسان إلى آلة منتجة وفقط، دون أي اعتبار لذاته ومكوناتها الأصلية، وبالتالي يفقد الاتصال بنفسه وبالأرض التي ينتمي إليها، وهذا يفقده المعنى في حياته، وحياة بلا معنى هو أساس أمراض هذا العصر النفسية.
الوعي بذلك الاتصال بين الإنسان وأرضه حيث تمتد جذوره، هو ما يحمي الإنسان من التخبط والتيه، وأن هؤلاء الذين لا جذور لهم يعيشون في تيهٍ عظيم، لا يمكن احتواؤه عبر الزيف واستيراد وطن أو أرض بديلة. وعي الإنسان بذاته يبدأ في تناغمه مع جذوره. ومن هنا تبدأ حياة الإنسان في أخذ الطريق الصحيح والذي لا بديل له.