يعيش الإنسان في سباقٍ مع الزمن ليملك الحق في أن يكون جزءًا من العالم، وذو مكانةٍ تؤهله للارتقاء إلى القمة. وليصل إلى ما يريد، عليه أن يصبح رقمًا فارقًا في عداد الزمن، ويجني أرقامًا مرتفعة. ولا يمانع أن ينطلق في الحال ليخوض سباقًا يحقق مساعيه من خلاله، بدءًا من ولادته وحتى آخر يومٍ في حياته، غير مكترث بما سيفوته من جماليات الحياة إذا ما أغفل حواسه واستمر في المضي بلا هوادة.
ماهية السرعة:
كم بدت السرعة مقلقةً لنا في كثيرٍ من الأحيان، وكم بدت هي الغاية والمنى. نحاول الاقتراب من كل تلك الأشياء البعيدة ونيلها، عبر حساب الوقت وعدّ الأيام، لكننا نقلق إذا ما مرت سريعًا، كأن أجمل أيام العمر تُسرق منا، ولا نقوى على استعادتها مهما حاولنا أن نخبئها. يظل جزء منها متاحًا للسرقة ومغادرتنا، مع أننا نُسلم ونستسلم راضخين لتسارع الأوقات، عبر التطلع إلى قادم الأيام، آملين أن تحمل جديدًا يغير الرتابة التي تطوقنا.
إننا نستعجل في كثير من الأحيان بغية اللحاق بسباقات الحياة، وخوفًا من أن يركض الجميع بينما نبقى في أماكننا. فالعجلة أصبحت عادةً يتخذها الإنسان ليجاري ما حوله، دون أن يدرك مقدار سرعة الحياة. مهما بذل جهده ليحظى بما يخشى فواته، فلن تكفي قوته وطاقته للوصول إلى جميعها. قد يصل منهكًا خائر القوى، لا يحصد أيًا مما سعى خلفه، فيقف متفرجًا على ما يتسرب من بين يديه. لكن الإنسان متناقضٌ كعادته؛ يخاف السرعة ولا يمانع من الركض، المهم ألا يفوته من الحياة شيء.
قانون السرعة:
لا أرى خلافًا على أن السرعة تنزع من الحياة لذتها. كيف لا، وهي تفرض قانونًا للتسارع على كل كتابٍ نقرؤه لنعرف الخلاصة ونصل إلى النهاية، دون أن نتمكن من حمل معلومةٍ تعلق في أدمغتنا لتعود علينا بالفائدة، أو الاستمتاع بجمال السرد والوقوف عند عذوبة المفردات. إنه قانون يحظر إمعان النظر في جماليات الكون، ويمنع تكرار الوقوف في المحطات الممتلئة بوقود تأمل الفن، وتذوق طعم التريث أمام ما يلفت العين ويجذب القلب.
إننا محكومون بالمرور مرور الكرام على المشاهد الهادئة والصور المبهرة، كي لا نبقى عالقين داخلها بينما يمضي الزمن. لا وقت لدينا لأخذ قسطٍ من الراحة كما يزعمون، فنحن في سباقٍ مع الزمن والأحلام، فأقصى طموحاتنا تتمثل في نشوة الوصول، لا في المتعة المرجوة من الرحلة بكافة تفاصيلها، وما يستوقفنا أثنائها.
مخاوف متعلقة بالسرعة:
يخشى البعض أن يقف به الزمن إن لم يبذل جهده للحاق به كما يفعل الآخرون، فيسخّر قواه لركض أبعد مسافة ممكنة معصوب العينين، لا يسمع صوت قلبه أو عقله، إنما يطاوع أقدامه لتحظى بمركزٍ جيدٍ في السباق. مما ينسينا أحيانًا السبب الحقيقي وراء مشاركتنا في هذا الماراثون الضخم، ويكون السبب غالبًا جراء الاعتياد الذي ينسينا الهدف الأساسي مما سبق. فتغفل عقولنا عنه لبرهةٍ من الزمن، ربما تطول وربما تزول إن استطعنا أن نفيق في الوقت المناسب ونتوقف عن الجري بعشوائية، دون التريث والإمعان فيما إذا كان الهدف يستحق ذلك العناء أم لا.
السرعة تقلل من جودة الإبداع:
السرعة قد تقلل من جودة الصورة التي نرسمها لحياتنا، وتجعلها تبدو أكثر شحوبًا وأقل اتزانًا، فلا مجال للاحترافية أثناء الإنجاز، مهما بذلنا من جهدٍ وطاقة. تصبح هذه الأشياء ضمن عجلة السرعة، ولا خيار أمامنا سوى المضي قدمًا، أو ترك مجالٍ لها لتعبر فوق أحلامنا، فيصبح التروي خيارًا غير متاح.
توحي لنا هذه السرعة بأنها مرتبطة بغزارة الإنتاج، بينما الغزارة في كثير من الأحيان محكومة بالفشل إذا ما تم تجاهل مقدار التلف والتشوه اللذين سيلحقان بما ننتجه، مما يعرضنا للإرهاق من الركض المتواصل داخل هذا المضمار.
الاعتدال مطلبٌ لا حياد عنه؛ لأننا لابد أن نقف لنستريح ونعود إلى السعي دون أن نجهد أنفسنا إجهادًا يتسبب في إقدامنا على العمل بعيدًا عن الإبداع. فشتان بين الاثنين، لاستحالة اجتماعهما معًا، وهما يناقضان بعضهما البعض. مع أن هناك من يعتقد أن بإستطاعته الدمج بين الإبداع والسرعة، يعود ذلك في رأيي إلى قلة الاهتمام بالجودة والتركيز الذي أصبح مُنصبًا على الكم، والتفاخر بعدد الإنجازات المحققة حتى لو بدت أقل إبداعًا.
قد تُظهر الحياة من حولنا صور المنجزين الذين سبقونا إلى القمة، بينما نحن ما زلنا نصارع ونحارب داخل الأنفاق لنصل ونحقق ما نريد. فنعتقد أنهم لم يخوضوا صراعاتٍ مثلنا، وحصدوا إنجازاتهم بلا عناء، وهذا ليس صحيحًا. فلكلٍ منا مواسم تساقط همته، ومراحل عجزٍ يصل بعدها إلى ربيعه. ويحدث هذا بعد المرور بالكثير، والاستمرار في العمل باجتهادٍ يتخلله استراحة محارب، مع التركيز على التفاصيل والعناية بها للحصول على نتائج مرضية. فليس هناك أمرٌ لا نحصد ثماره إن أوليناه اهتمامنا ووقتنا، بل على العكس تمامًا، كلما زادت العناية به وتم الالتفات إليه، حققنا ما نأمل. وكلما بذلنا جهدًا ونحن في قمة الراحة والتركيز، اندمجت عقولنا واتحدت مع ما نقوم به، وأحسنت إخراجه إلى العلن.