البشر، أسياد التبرير بلا منازع. لو أقيمت بطولة عالمية للتبرير، لاحتكرنا الكؤوس الذهبية منذ بدء الخليقة وحتى إشعار آخر. نحن لا نمارس التبرير كمهارة مكتسبة أو عادة موروثة، بل هو فن فطري يولد معنا، ينمو فينا كأنه امتداد طبيعي لغرائزنا الأولى. التبرير هو وسيلتنا الأنيقة لخلق عالمٍ موازٍ، حيث نبدو دائمًا ضحايا لا جناة، عباقرة لا مخطئين.
تأمل أي موقف بسيط في حياتك اليومية. لنفترض أن أحدهم نسي مفاتيحه في المنزل. هل سيعترف ببساطة قائلاً: “نسيت”؟ بالطبع لا. سيطلق العنان لعبقريته في التبرير: “كنت على عجلة من أمري”، “المفاتيح ليست في مكانها المعتاد”، “الشمس كانت في عيني”. وهكذا يتحول خطأ بشري بسيط إلى حبكة درامية تُنافس أعقد أفلام الإثارة.
كسل بأناقة
أحد المشاهد اليومية المليئة بالتبرير هو تأجيل المهام. يخبرك صوتك الداخلي: “سأبدأ بعد خمس دقائق”. ثم تمر الساعات، وأنت تُكرر على نفسك: “ليس الآن، يجب أن تكون الساعة مرتبة”. ينتهي اليوم وأنت تستلقي للنوم مطمئنًا بأنك تحتاج فقط إلى بداية جديدة غدًا. من منا يعترف ببساطة: “أنا كسول، لا أريد العمل الآن”؟ مستحيل. الكسل لا يُرتكب علانية، بل يُغلف دائمًا بمبررات تبدو منطقية.
ولكن الأكثر إثارة للسخرية أن هذا الكسل المغلف بالمبررات قد يُصبح وسيلة لإقناع الآخرين بعبقريتنا. ربما تخبر صديقك: “أنا لا أعمل على المشروع الآن لأنني أحتاج وقتًا لتنضج الفكرة”. وهكذا، يبدو تأجيلك وكأنه خطوة تكتيكية وليس كسلًا. نحن، معشر البشر، نحول العيوب إلى فضائل بمجرد رش القليل من التبرير عليها.
العلاقات: التبرير في قمته الفنية
إذا أردت مشاهدة تبرير متقن، راقب العلاقات الإنسانية. ستجد شخصًا يستمر في علاقة يدرك تمامًا أنها فاشلة منذ البداية، لكنه يقنع نفسه: “ربما يتغير”، “أنا السبب في المشكلة”، أو العبارة الأكثر شهرة: “ليس هناك شخص أفضل منه الآن”. وهكذا، يعلق الإنسان في دائرة مغلقة من التبريرات، مستنزفًا طاقته في الدفاع عن قرار كان يعرف منذ البداية أنه خطأ.
الطريف أن البشر لا يبررون فقط لأنفسهم، بل يبررون للآخرين أيضًا. ترى صديقك يسيء التصرف فتقول: “ربما يمر بوقت صعب”. أو ترى زميلًا يتأخر باستمرار فتُفسر: “يمكن أن يكون ضغط العمل السبب”. نحن نختلق الأعذار للآخرين كي نحافظ على صورة مثالية لعالمنا. كأن الحقيقة إذا ظهرت ستكشف هشاشة تصوراتنا.
التبرير كآلية بقاء
الحقيقة أن التبرير ليس مجرد عادة، بل هو آلية بقاء. نحن نحاول من خلاله أن نحمي أنفسنا من مواجهة الذنب أو الإحساس بالنقص. عندما نبرر، نحن لا نخدع الآخرين فقط، بل نخدع أنفسنا أيضًا. نخترع قصصًا تجعلنا نبدو أفضل، أو على الأقل، أقل سوءًا. إنه درع يخفف وطأة الحقيقة.
ولكن المشكلة تبدأ عندما نُصدق تبريراتنا. حينها، يتحول الخطأ إلى نمط حياة. نعيش في فقاعات من الأكاذيب الصغيرة، نهرب من الواقع بدل مواجهته. والأسوأ أننا نُضيع فرصًا للتعلم والنمو، لأن الاعتراف بالخطأ هو أولى خطوات النضج. إذا كنت تبرر كل شيء، فكيف ستتعلم؟
مواجهة حقيقة التبرير
ما الذي يحدث حين نتوقف عن التبرير ونسمح لأنفسنا بمواجهة الحقيقة العارية؟ الأمر ليس سهلًا، لكنه أشبه بخلع أقنعة متراكمة. التبرير يمنحنا راحة مؤقتة، لكنه يخلق مسافة بيننا وبين ذواتنا الحقيقية. المواجهة، من ناحية أخرى، هي دعوة للعودة إلى الداخل، حيث تكمن إجابات الأسئلة التي نخشى طرحها.
ابدأ بسؤال نفسك: لماذا أبرر؟ ما الذي أحاول إخفاءه؟ هل أخشى الضعف؟ هل أهرب من ألم الاعتراف؟ الحقيقة أن مواجهة التبرير تعني تقبل ضعفنا الإنساني. أن نعترف بأننا لسنا دائمًا على صواب، وأن الخطأ جزء من تكويننا. وعندما نفعل ذلك، نجد أن الحقيقة أقل قسوة مما تصورنا، وأن الصدق مع النفس يفتح أبوابًا للنمو والتغيير.
المواجهة لا تعني جلد الذات، بل المصالحة معها. أن تقول: “لقد أخطأت، لكنني أستطيع التعلم”. أن ترفض الغرق في بحر الأعذار، وتختار أن تعيش على أرض الحقيقة الصلبة، مهما كانت وعرة. إننا لا نتحرر من التبرير لنصبح مثاليين، بل لنصبح أكثر صدقًا مع أنفسنا، وأكثر قدرة على تقبل حقيقتنا بكل تناقضاتها.
نحن أسياد التبرير لأننا بشر، لأننا نخاف الحقيقة ونبحث عن الراحة. ولكن ماذا لو جربنا أن نعيش ليوم واحد بلا تبرير؟ أن نقول: “أنا أخطأت”، “أنا كسول”، “لا أحب هذا”. ربما سنكتشف أن الحياة أكثر بساطة مما نظن، وأن الحقيقة، رغم قسوتها أحيانًا، تحررنا من أثقال التزييف. فهل نجرؤ على المحاولة؟