تمضي السيارة على الطريق، المسافة بين المنزل والعمل ثابتة، لكنها تبدو للأم العاملة أطول مما ينبغي. ليس لأنها بعيدة جغرافيًا، بل لأنها محمّلة بأثقال غير مرئية: مواعيد الطبيب المؤجلة، وجبات الإفطار التي أُعدت على عجل، الواجبات المدرسية التي لم تُراجع، والرسائل التي لم تجد الوقت الكافي للرد عليها.
الطريق الذي يقيسه الزمن بالدقائق، تقيسه هذه الأم بالأعباء التي تراكمت منذ الفجر، وبالتخطيط الدقيق الذي يتطلبه كل يومٍ جديد. إنها لا تسلك طريقًا واحدًا، بل طريقين متداخلين؛ أحدهما يأخذها إلى عملها حيث يُطلب منها أن تكون منتجة ومحترفة، والآخر يعيدها إلى منزلها حيث تنتظرها مسؤوليات لا تنتهي.
كل إشارة مرور، كل منعطف، كل محطة في رحلتها هي جزء من هذا الميزان الحساس الذي تحاول ضبطه بلا هوادة. لكنها تعلم، رغم كل شيء، أن هذه المسافة ليست مجرد طريق، بل فصلٌ يوميّ من قصة كفاحها المستمر.
حين يكون العمل ضرورة لا خيارًا
في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة، لم يعد العمل بالنسبة للمرأة مجرد وسيلة لإيجاد الذات أو بناء الطموح، بل أصبح ضرورة وجودية تفرض حضورها بقوة، خاصة حين تكون المرأة هي المعيل الوحيد لأطفالها. حينها لا يعود الخيار متاحًا، بل يتحول العمل إلى واجب يومي، وإلى مسؤولية متداخلة مع كل تفاصيل الحياة، تفرض إيقاعها على الجسد والروح والوقت.
تجد الأم العاملة، ولا سيما العزباء، نفسها وسط سباقٍ لا يُمهل، بين الحضور المهني والإخلاص الأسري، وبين الالتزامات المالية والضغوط العاطفية. ومع كل صباح، تبدأ مرحلة جديدة من التحدي، حيث لا مكان للتردد أو التراجع، بل إن الفكرة الأساسية التي تسيطر على يومها هي كيف تحافظ على توازن هشّ، لا يسمح بخطأ ولا يقبل بضعف.
وحين تكون هذه الأم مسؤولة عن إعالة أطفالها، لا يعود العمل مجرد وظيفة، بل يتحول إلى جدار الصمود الأخير، إلى ملاذٍ مادي ومعنوي، وإلى وسيلة لضمان استقرار عائلي لا يمكن التفريط فيه. هنا، يصبح الخوف من الإقصاء أو فقدان الوظيفة لا يتعلق فقط بفقدان مصدر دخل، بل بفقدان الأمان الكامل للأسرة.
لكن هذا الالتزام المتواصل، وإن كان مبعث فخر، لا يخلو من التحديات المؤلمة، فهو غالبًا ما يصطدم مع متطلبات الأمومة التي لا تنتظر. فكم من اجتماع أولياء أمور تم تفويته؟ وكم من موعد طبي أُجّل؟ وكم من لحظة ثمينة مع الأطفال لم تُعش؟ لا لشيء سوى لأن جدول العمل لا يعترف بمشاعر الأم، ولا يمنحها رفاهية التغيب أو التأجيل. بل إن ساعات الدوام الرسمي ليست نهاية اليوم، فالفكر يبقى منشغلاً، والقرارات اليومية تتأثر، والمشاعر مثقلة بإحساس دائم بأنها مطالبة بأن تكون الأفضل في كل شيء.
هذا الواقع اليومي يتعاظم حين تتشابك المسؤوليات المهنية مع مسؤوليات المنزل. المرأة لا تخلع عباءة الأمومة على عتبة المكتب، ولا تنزع ثوب الموظفة عند عتبة البيت. إنها تعيش دورين كاملين في آنٍ واحد، وهو ما يشكّل عبئًا مضاعفًا على الجسد والنفس. وقد أشار الباحثان محمد الحسن وإحسان في أحد أبحاثهما إلى هذه المعضلة قائلين:
“ونتوقع من النساء تحمل أوزارها دون مساعدتهن من قبل الرجال، وهذه الحقيقة تعرضها للإرهاق
والأعباء الجسدية والنفسية، خصوصًا وأنها مسؤولة عن تحمل أعباء أدوارها المنزلية والوظيفية في آنٍ واحد.”
بين الإنهاك والحاجة إلى الدعم
إنها دعوة صريحة لإعادة النظر في المنظومة الاجتماعية التي ترمي بالأعباء الكاملة على عاتق المرأة دون دعم كافٍ، لا من الشريك، ولا من بيئة العمل، ولا حتى من السياسات العامة. فهذه المرأة لا تطلب امتيازات، بل تطلب الحد الأدنى من التفاهم والدعم، كي تستمر في عطائها دون أن يُستنزف كيانها.
وربما يكون الحوار مع المديرين هو بداية الطريق نحو خلق واقع أكثر توازنًا. فبدلاً من أن تُضطر الأم لتبرير كل طلب إجازة أو تأخير، من الأفضل أن تجد مساحة حقيقية لطرح احتياجاتها، ومناقشتها بوضوح وشفافية. ليس ضعفًا أن تطلب المرأة تخفيف ضغط أو تعديل جدول، بل هو انعكاس لنضجها المهني، ووعيها بحقوقها، وإدراكها بأن التوازن ضرورة لا رفاهية.
المؤسسات، من جهتها، مطالبة بدور أكثر فاعلية في بناء بيئة داعمة. البيئة الإنسانية لا تُقاس فقط بالإنتاجية، بل بقدرة النظام على احتواء الموظف في ظروفه المتغيرة. حين يُنظر إلى الموظف كإنسان، يُعاد بناء العلاقة بين الفرد والعمل على أسس أكثر إنصافًا واستدامة. فكيف يمكن للأم أن تعطي بإخلاص، إن كانت تُعامل وكأنها آلة لا تعرف التعب؟
في النهاية، يجب أن نتذكر أن العمل وسيلة للعيش، لا الحياة نفسها.
الأم العاملة ليست مسؤولة عن الكمال، ولا يلزمها حمل كل شيء وحدها. ما تحتاجه هو فهم، دعم، واعتراف بدورها الإنساني، وليس فقط المهني. لأنها حين تجد من يحتضن احتياجاتها، تصبح قادرة على الاستمرار، وعلى العطاء بحب، دون أن تخسر نفسها في الطريق.
شاركنا تعليقك من هُنا