في رحلة التشافي، يمر الإنسان بلحظات صعود وانهيار؛ لحظات يرى فيها حياته منسجمة ومكتملة، وأخرى ينهار فيها فجأة دون سببٍ واضح.
كنتُ أعيش هذه الدورة مرارًا: بناء ثم رضا ثم سقوط، حتى أصبح الوصول إلى حالة الاكتمال نفسها أمرًا يثير خوفي.!
تساءلت: كيف يتحوّل الرضا إلى فخّ؟ وكيف نصير نحن — دون أن ندري — مدمنين لوجود المشاكل في حياتنا؟
دائرة البناء والانهيار
لسنواتٍ طويلةٍ لم أكن أملك تفسيرًا لما يحدث. في كل مرةٍ أسقط فيها، كنتُ أنشغل بإعادة بناء نفسي بدلًا من التوقّف والتأمل..
تكرّر المشهد مرارًا حتى صار السقوطُ بعد الرضا أمرًا حتميًّا، وكأن ذروةَ الاطمئنان هي مقدّمةٌ حتميةٌ للانهيار التالي.
يا له من شعورٍ مرعب! أن تخاف من لحظة السلام لأنك تعلم أن وراءها عاصفةً قادمة.
حين أدركت ذلك، فهمت أنني لا أعيش خطًّا متصاعدًا من النمو، بل أدور في عجلةٍ نفسيةٍ تصنع الألم ثم تبرّر وجوده لتعيد الدوران من جديد.
لم تكن تلك مجرّد برمجةٍ شخصية، بل نمطًا جمعيًّا متغلغلًا في وعينا، تُغذّيه الثقافة والمجتمع والقصص التي نسمعها عن قيمة المعاناة" و"عظمة الصراع".
برمجة جماعية تتغذّى على الألم
حين تأملتُ في الأمر أكثر، أدركت أن مشكلتي ليست فردية، بل هي جزء من برمجة جمعية.
في مجتمعاتنا، تُبنى أغلب علاقاتنا على تبادل الشكوى والمشكلات. حتى حين لا توجد مشاكل، نجد أنفسنا نخلقها بالحديث عنها، وكأننا نُعلن من خلالها عن تشابهنا الإنساني.
نستمدّ الانتباه والتعاطف عبر سرد الصعوبات، فنشعر أننا "موجودون" طالما لدينا ما نعانيه.
الأخطر من ذلك هو البرمجة الأعمق التي تقول:"النجاح الحقيقي لا يتحقق إلا بعد المرور بمعاناةٍ عظيمة"، كأن الحياة تشترط الألم كي تُكافئنا بالسعادة!
فنرى القصص، والأفلام، وحتى النصائح اليومية، تُمجّد الصراع وكأن الهدوء علامة ضعف.
وهكذا نُغذّي داخلنا يقينًا بأن الحياة الهادئة لا تستحق الاحترام.
أوهام البطولة الزائفة
قرأتُ يومًا لكاتبٍ يقول: "المشاكل الحقيقية في الحياة أقل بكثير من المشاكل التي نخلقها بأنفسنا:
وقسمها لنوعين
- مشاكل حقيقية مثل الكوارث والأحداث الخارجة عن الإرادة
- مشاكل وهمية نُنتجها نحن بأنفسنا حين نفسّر الأحداث العادية على أنها دراما كبرى، فقط لنشعر أننا أبطال قصةٍ مثيرة..
لكن هل البطولة الحقيقية أن نفتعل الألم؟
هل من الشجاعة أن نحيا في عاصفةٍ دائمةٍ فقط كي نشعر بأننا نحيا؟
برأيي، البطولة الحقيقية هي في السير بهدوء نحو النور، في الثبات على الاستقرار دون الحاجة إلى عواصف كي نُثبت لأنفسنا أننا أحياء.
ليس الطريق المليء بالعقبات هو الأسرع دائمًا، بل ربما الطريق الهادئ المتّزن هو ما يقودنا إلى شمسنا بثباتٍ وسلام.
دراما الحياة: الوهم الجميل الذي يسرقنا
لقد بُرمجنا على أن "المشاكل بهارات الحياة"، وأن الهدوء يعني الملل، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا.
إنّ المشاكل لا تُضفي على الحياة نكهة، بل تُفسد مذاقها.
الدراما الدائمة تُشبع فينا خوفًا خفيًّا من الفعل، من الحب، من التقدّم.
وحين نستمر في تغذية هذا الخوف، نصبح أسرى له، فنعيش في دوائر من التراجع بدل النمو.
المشكلة ليست في أن نواجه صعوبات — فالحياة بطبيعتها لا تخلو منها — بل في أن نُقدّس وجودها ونعتبرها شرطًا للمعنى.
حين نكسر هذا الوهم، نتحرر. ندرك أن السلام ليس فراغًا، بل حالة امتلاء حقيقي.ربما أكبر خطوة نحو الشفاء ليست في حلّ مشكلاتنا، بل في التوقف عن خلقها.
في أن نتعلّم كيف نحيا من دون "دراما"، كيف نقبل البساطة دون أن نشعر بالملل، وكيف نؤمن أن الحياة لا تحتاج صراعًا كي تكون جديرة بأن تُعاش.
حين نتخلى عن إدمان الألم، تبدأ حكايتنا الجديدة: حكاية إنسانٍ حديثٍ اختار أخيرًا أن يعيش بسلامٍ لا يُبرَّر، ورضا لا يُهدَّد.
شاركنا تعليك من هنا