من قال إنّنا نرفض التقدّم بالعُمر؟ ليس أنا، ولا أنت، ولا الذين كتبوا على كعك ميلادهم الثلاثين (Young Forever): والتي تعني “روح شابّة إلى الأبد”، أو “شباب دائم”. حتى عندما فاجأنا أصدقاؤنا بهذا الكعك، كانوا يعرفون أنّنا لم نكن نقيس البُعد الفعلي بين سن العشرين والثلاثين بالأرقام، بل قسناه بالأحلام، تلك التي ختمنا على أكثريتها بالتأجيل من دون قصدٍ منّا: السفر رُبّما؟ الادخار؟ لغات لم نتعلّمها بعد؟ حمية غذائية؟ إدراك كافٍ للأبعاد السياسيّة؟ خطط استقرار غير واضحة المعالم؟
شريط من الأسئلة المُتحاملة، يتشكّل ثم يتبدّد فور إيقاظ الأصدقاء لنا بنكاتهم التي تخفّف وطأة رقم الثلاثين، بأنّنا لا بد أن نُطفئ الشمعة حالًا قبل أن تُفسد الكعك. أطفأتها، ثمّ ماذا؟
أن تكون من مواليد التسعينات وبداية الألفية، يعني أن تكون مولودًا من الحنين، مستطردًا صورًا كثيفة من الطفولة والمُراهقة، تجلس على الأقل أسبوعيًا مع الاحتمالات المؤجّلة والصور الذهنية التي حلمت أن تكونها يومًا ما. ومع ذلك، وجدتَّ لونًا أكثر حماسةً وجرأةً للحياة اليوم، مستبدلًا أحلامًا بأخرى، أكثر مرونة وتكيّفًا مع التحوّل الرقمي والذكاء الاصطناعي، اللذين قدّما لنا تجارب حياتيّة متعدّدة الفرص وخيارات أكثر مما اختبره آباؤنا وأمهاتنا من الجيل الصامت (جيل إكس) وما قبلهم.
وما نتج عن ذلك كان معتركًا لا نهائيًّا يكاد يدهسنا من السرعة والتوتّر، نحو مصائر قد تبدو لنا فرصًا نُضيّعها من أيدينا باستمرار، بتردّد منّا أو شك.
العمر ليس مجرّد رقم
على الأقلّ، ليس بتقدير الرياضيّين وممارسي اليوغا، فهم يعرفون أن العُمر البيولوجي مهم بالتزامن مع صحّة العُمر الجسدي. في نظرة خاطفة على المستوى العلمي والنفسي، فإن الدراسة المقدَّمة من مجلة GeroScience، والتي أُجريت على 95 ألف حالة، لـ 44 نوعًا مختلفًا من الرياضات من 183 دولة حول العالم، توصّلت نتائجها إلى نظرية تنص على أن خصائص كل رياضة من حيث النشاط الهوائي واللاهوائي تلعب دورًا رئيسيًا في زيادة الصحّة خلال سنوات العُمر، بالإضافة إلى أن الرياضات المختلطة (التي تجمع بين الجهد الهوائي واللاهوائي) تعطي الفائدة الأعظم على مستوى العُمر البيولوجي.
ومع زيادة الاكتشافات في مجال أبحاث طول العُمر والصحّة لمنصة SAGE Publications، فقد عزّزت دراسات قدّمتها مجلة Gerontology & Geriatric Medicine خصائص فريدة تحمل آثارًا واسعة على اختبار التدخلات الدوائية وغير الدوائية المصمّمة لإبطاء أو عكس مسار الشيخوخة البيولوجية، مع تركيز خاص على الأبحاث المتعلقة بتعديل نمط الحياة وتأثيره على التوتر، وجودة النوم، وأمراض الشيخوخة والقلب، والإدمان بجميع أشكاله.
فإن كنت قد استهلكت عبارة “العُمر مجرد رقم” سابقًا، فمن شأنك أن تبدأ قريبًا باختيار الحمية الغذائية التي تُناسبك، أو إصلاح علاقتك مع السكريات، والكافيين، وجدول نومك، والحفاظ على دائرة أصدقائك الذين كتبوا على كعك ميلادك (شباب دائم — Young Forever)! وما يسبق كل ذلك، الرضا بانتقالك إلى المحطة التالية: الأربعين!
ودعنا نتذكر أن قياس العُمر بعد الثلاثين بالأحلام لن يُجدي نفعًا كما فعلنا في العشرينات. وخصوصًا أن مواليد التسعينات وبداية الألفية يُظهرون مقاومة غير واعية للتقدّم بالعُمر، بحسب دراسة وردت في مجلة Gerontology & Geriatric Medicine، حيثُ تُذكر بأننا على صدد مواجهة سلوكيات مقاومة وقلقة من نوع: التذمّر من بُطء رتم حياة كبار السن، والانتباه للفجوة الزمنية بيننا وبين من كنا نعتقد أنهم يسبقوننا بأعوام طويلة، والهوس بالشباب والجمال، وقلة القيمة، وضياع الفرص الأكثر حيوية ونشاطًا؛
نظرًا لأن الانتقالات الرقمية والتسارعات الاجتماعية والفُرص النوعية في شتّى المجالات كانت أكثر كثافة على مواليد التسعينات وبداية الألفية من تلك التي واجهتها الأجيال السابقة. بحسب ما ذكر في مجلة Vox.
“في الماضي، كانت أزمة منتصف العمر تُغذّى غالبًا بردّة فعل مفاجئة تجاه إدراك المرء لفنائه،
أما اليوم، بالنسبة لمن هم قريبون من الأربعين من جيل التسعينات والألفية، فهي أشبه بتقرير تقييم مرحلي، ذو خطط خانقة من الصعب الوصول إليها، لأن الكثير منهم لا يزالون يبحثون عن فرصة جديدة، ورحلة لياقة مجدية، ومسار مهني مختلف، أو يقظة داخلية؛ بدلًا من إدراك أنهم بصدد أزمة منتصف عمر تستدعي تدخّلًا دون تأخير.”
كيف تمدّنا النوستالجيا بالمعنى وتضخّم من الفجوَة الزمنية في آن واحد؟
على عكس (جيل إكس) من مواليد الخمسينات الميلادية الذين لا يحبّذون النظر مطولًا في ماضيهم، فإن جيل التسعينات وبداية الألفية أكثر تعرّضًا للنوستالجيا، وهي مفهوم يعبّر عن شوق عاطفي أو حنين متأمل للماضي.
معظمنا يجد أنها تعزّز من إحساسه بالهويّة الذاتية، ومشاعر نوعيّة تُحفّز الأمل، ويُستمدّ منها الاستقرار النفسي والترابط الاجتماعي. “علاوة على ذلك، تستعرض أدلة تفيد بأن حنين النوستالجيا يُعد موردًا نفسيًا يلجأ إليه الأفراد عندما يشعرون بنقص في المعنى. كما يعمل الحنين كحاجز دفاعي في مواجهة التهديدات الوجودية، ويخفّف من الآثار السلبية الناتجة عن غياب الإحساس بالمعنى”، بحسب ما ذُكر في فصل “المعنى – النوستالجيا كوسيلة لتعزيز معنى الحياة” من كتاب العقل السعيد: الإسهامات المعرفية في الرفاهية النفسية. ولكن، في معظم الأحيان، لا أحبّذ تداولها بكثرة، كوني أجدها نظرة مُثبطة ذاتَ قوة عكسية للوراء، والأسى، والرثاء، ربما. وقد تعتمد على نوعيّة الذكرى التي نستحضرها إلى اليوم.
على أيّ حال، يجب أن نلاحظ مقدار ما نستمدّه من النوستالجيا حتى لا نتأثر كثيرًا بزيادة مقدار الفجوة الزمنيّة بين اليوم وأمس، ممّا يجعلنا نُشكّل صورًا من المقاومة اللاواعية للتقدّم في العُمر، صورًا تُعطّل نمونا النفسي، وتُشوّه الواقع الحالي بكلّ ما يحمله من تحديات مُثمرة، إذ إنها تجعلنا نرى الفرص اليوم أكثر صعوبة ومشقّة من الماضي المثالي الذي تصوّره لنا النوستالجيا، عن مرحلة أكثر انبساطًا وتقبّلًا لقدراتنا المحدودة آنذاك، وقد نفدت منّا الأعذار لكوننا “لا نستطيع، لا نقدر، ولا يوجد لدينا متّسع من الوقت”. إذًا، علينا حتمًا أن نرضى بالأربعينيات التي سنصل إليها قريبًا!
بصراحة، لا أستبعد نفسي من تلك المقاومة، كوني لا أجد فارقًا كبيرًا بين الفتاة التي كانت في الثانوية، والمرأة التي أصبحتُ عليها اليوم. فقد بدأ العدّ التنازلي بالنسبة لي بعد إكمالي عامي الخامس والعشرين، النقطة التي انتبهتُ عندها إلى كثافة الصور التي كنتُ أتخيّلها عن سن الثلاثين، والأحلام المركونة على رفّ التخطيط، وعلى خلاف ما كنت أتصوّره، وصلتُ إلى مرحلة أخرى، أفضل ممّا كنت أعتقد، وأقلّ خسائر مما كنتُ أخشى.
وقد أيقنتُ بضرورة مراجعة ما ألقيتُ عليه انتباهي في نهاية كل عام، وبجهدٍ يَحفّه السرور والامتنان، تعلّمتُ أن أُجهّز نفسي كفايةً لبداية العام التالي، والبدء حالًا في خطوات صغيرة تُقرّبني من أهداف واقعية، أكثر هدوءًا وتبصّرًا لمشاعر اليوم، لا الصورة المستقبلية البعيدة، لا أنتظر فيها يوم الأحد، ولا أول يوم من الشهر القادم.
ومما يُخفّف وطأة الأمر، أنّ الاعتراف بالمراحل القادمة من حياتنا، بكل ما تتطلّبه من نضجٍ واعٍ وتروٍّ، قد يزيد فعلًا من جودة سبعة أعوام من أعمارنا! أي عندما نملك نظرة إيجابية لها، وذلك بحسب دراسة طويلة الأمد، تتبعت بيانات لأكثر من 20 عامًا في ولاية أوهايو. إذًا، لن تصبح عبارة “العُمر مجرد رقم” شمّاعةً لك بعد اليوم، ومن المستحسن أن تبدأ في الحمية الغذائية بعد كعك الثلاثين دون تأجيل، وأن تتوقّف عن مجاراة الأصغر منك سنًّا في لباسهم ومصطلحاتهم، من أجل مقاومة أقلّ، وعُمر بيولوجي صحيّ أكثر!


