تأسّست المولات والمراكز التجارية وفق شعارٍ واضح وصريح: Shop till you drop – تسوّق حتى تسقط من التعب، ومع تطور تقنيات التسويق والتأثير، أصبحت تتلاعب بالمستهلك بمختلف التفاصيل والطرق لتدفعه إلى الاستهلاك بشكل أكبر. كم هو عدد المرّات التي نويت فيها دخول المول لشراء غرض تحتاجه ورجعت إلى المنزل بأغراض أخرى لم تضعها أبدًا في الحسبان؟ لا شكّ أنّ الأمر حدث معك عشرات المرّات، وقد حدث معي كذلك.
يقول المفكّر المصريّ “عبد الوهاب المسيريّ”:
“نحن نعيش في عالم يحولنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس” وهذه الحواس هي في الحقيقة ما يتمّ استهدافه في المول لدفعك إلى الاستهلاك. بدايةً من الصوت، الضوء، الموسيقى، والرائحة، لا شيء يوضع مصادفةً هنا، بل يتمّ اختياره وفق خطّة تسويقية محكمة تهدف إلى إبقائك بشكلٍ أكبر داخل المول.
فور دخولك، ستُبهر بكمية الإضاءة الساطعة المتواجدة في المركز، والموزعة على المحالّ واللاّفتات، سيخطف بصرك ذلك التوزيع السّريع والقوي لها، بعضها مركّز بشكل
كبير على منتج أو لباس معيّن، ليشعرك بجماله ويوهمك بضرورة اقتنائه، وحين تفعل ذلك وترجع إلى البيت ستفاجأ بأن ذلك اللباس لم يكن -ربما- بتلك الروعة التي تصورتها في المركز. في أماكن أخرى مثل المقاهي، والمكتبات، الإضاءة تكون خافتة، لتمنحك شعورًا بالدفء والسكينة والاطمئنان، وتجعلك تقضي وقتا أطول وربما تطلب أشياء أكثر.
الأمر ذاته ينطبق على الموسيقى. الريتم المتباين بين السريع والبطيء لا يُختار عبثًا. الموسيقى الهادئة الكلاسيكية التي تصادفها في محلّات
الملابس تريد في الحقيقة أن تشعرك بالاسترخاء لتبقيك في المحلّ لوقت أطول. والمحلّ ذاته يلجأ إلى استعمال موسيقى صاخبة وسريعة في أوقات التخفيضات والعطل، لأنّ عدد المشترين يكون كبيرًا وقد يكون المتجر مكتظًّا، والموسيقى الصاخبة تحثك على المشي وعدم البقاء أمام المنتج لمدة طويلة حتّى يتسنّى للجميع رؤيته.
أما رائحة جوز الهند التي شممتها خلال فصل الصيف في محلٍّ يعرض مستلزمات الشاطئ، فهي الأخرى لم تكن مصادفة. الروائح والموسيقى والإضاءة كلها محفّزات تستهدف
المراكز العصبية، خاصةً تلك المرتبطة بالدوبامين لضخّ شعور بالسّعادة والمكافأة والشروع في الاستهلاك، وقد يصل هذا الشعور حدّ الإدمان، وتعرف هذه الظاهرة باسم “اضطراب التسوق القهري – Buying Shopping Disorder” BDS
هندسة المول أشبه بالمتاهة. تجد نفسك تمشي لمسافات
طويلة، ولا تدري إلى أين تريد الذهاب بالضبط، وتشعر بنسيان المداخل والمخارج رغم زيارتك له للمرة الألف. صدقني هذا الشعور بالتشوش مقصودٌ كذلك، لأنك خلال الطريق الذي تقطعه ستصادف مئات الإعلانات الترويجية، والتخفيضات والسّلع والمنتجات. ثمّ ألم تتساءل يومًا لماذا توجد المطاعم في الطابق العلوي؟ الطعام هو غالب ما يزور الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية المول التجاري من أجله، لكنّه يوضع في مكان بعيد نسبيًّا حتى تُضخّ بمدخلات كثيرة جدًّا من الإعلانات والمنتجات، منذ لحظة دخولك، حتى وصولك إلى الطابق العلوي.
ثم يتكرر الأمر ذاته عند عودتك.