من خلال قراءتي المتواضعة في الأدب والشعر العربي، لاحظتُ القدرة الهائلة والجرأة الكبيرة التي يمتلكها الكتّاب من الرجال للكتابة بألسنة النساء. وخلال بحثي عن نماذج لنساء كتبن بألسنة الرجال، لم تظهر لي إلا أمثلة شحيحة جدًا مقارنة بالكتابات الرجالية، وذلك ما جعلني أتساءل: لماذا لا تكتب النساء بألسنة الرجال كما يفعلون؟ لماذا لا تستعير صوته ومشاعره، وتتخيل مكنوناته ورغباته في مخيلتها كما يفعل الأديب والشاعر الرجل مع المرأة؟
بالنظر إلى الأسباب التي دفعت الرجل إلى استعارة صوت المرأة، سواء في كتابته لآرائه النسوية أو نسجه لتخيلاته العاطفية أو حتى في الشعر، سنجد أن الأمر يعود إلى تغييب المرأة طويلًا عن ساحة الكتابة. إما بسبب حرمانها من التعليم، ما جعل الحرف يثقل لسانها قبل أن يثقل قلمها، أو بسبب تنشئتها على الخجل (لا الحياء) الذي سلبها حرية التعبير عن عواطفها ومشاعرها ونظم الشعر الغزلي.
فنجد أن كثيرًا من شاعرات العصر الجاهلي، بالرغم من فصاحتهن وطلاقة ألسنتهن، لم يُعرفن إلا بنظم الشعر الرثائي؛ كما يتجلّى في شعر الخنساء.
يقول الرافعي في تاريخ آداب العرب، في حديثه عن أسباب قلة الشاعرات من النساء:
"كانت الطبيعة نفسها حجابًا مضروبًا على النساء، قبل الحجاب الذي ضربه الرجال عليهن... فكانت المرأة العربية كأنها طبيعة من طبائع النقمة؛ إذ لم تكن إلا عِرضًا يُحمى بالسيف أو يُسلب بالسيف، وجعلها ذلك منهم بمنزلة الذاكرة من وقائع التاريخ، فهي التي تذكرهم بالثأر وأيام الدم، وهي التي لا تنسى شيئًا مما هيأتها له الطبيعة الاجتماعية في أرضها وقومها... فمن ثم انصرفت عن الشعر إلا في أخص شؤونها، وشُغلت من الخيال بإحساسها الذي لا همَّ لها فيه إلا أن تستمده من الحادثات"، وأضاف في موضع آخر: "ولم تكن نساء العرب يقلن في الغزل ووصف الهوى إلا قليلاً، لمكانة المرأة بينهم وشدة الغيرة فيهم." فنحصر دور المرأة كشاعرة في نظم الشعر النابع من شعورها بالحزن.
ومع مرور الوقت، ازداد حصر المرأة وقولبتها في أدوار التربية والتنشئة، حتى أصبحت أداة من أدوات الكُتّاب: لا تنطق الشعر بل يُستنطق على لسانها، لا تكتب الرأي بل يُكتب عنها، لا تنسج الخيال بل تكون هي المادة العظمى لخيال الرجل. فجُرّدت من دور الكاتبة، وانحصر دورها كملهمة فقط.
وما إن استعادت المرأة صوتها وقلمها بعد هيمنة طويلة، كان شاغلها الأكبر وأولويتها الأولى أن تعبر عن نفسها، وتناقش قضاياها بطريقتها وعقليتها، أن تطلق العنان لمخيلتها، وتنسج شخصيات نسائية كُتبت بمشاعر وأحاسيس نسائية. فأصبحت تزاحم بصوتها وآرائها أصوات الرجال، في محاولة لإكمال كل رأي قاصر كُتب عنها، وتعديل كل تصور مخل لمشاعرها، صيغ بطريقة خاطئة أو عجز قلم الرجل عن إيصاله. فكان لزامًا على كل كاتبة أن تعمل على خلق "لغة خاصة بالنساء"، يكتبن بها ذواتهن.
أعتقد أن المرأة تحتاج إلى وقت أطول للتخلص من تأثير الصوت الذكوري الذي فُرض عليها من خلال الشعر والأدب، الذي كُتب بلسانها لكنه حمل طابعًا ذكوريًا مغلفًا بضمائر مؤنثة، قرأته وتغنت به طويلًا حتى اختلط عليها الأمر، فما عادت تميّز شعورها الحقيقي من الشعور الذي أُوهمت بأنه شعورها. تجلى هذا التأثير بوضوح في أدب نزار قباني، الذي — بالرغم من إعجابي الذي لا أخفيه بطريقته العذبة والرقيقة في الكتابة عن النساء ومشاعرهن وانكساراتهن — إلا أنني ناقمة على بعض تصوراته الذكورية التي لم يستطع كبحها أثناء كتابته بلسان المرأة، والتي تقمصتها الأصوات النسائية وتأثرت بها دون أن تنتبه لتلك الذكورية المتخفّية.
برأيي، إن المرأة لا تكتب بلسان الرجل ليس لعجزها عن التصور أو لضيق في مخيلتها، بل لأنها لا تزال تكتشف صوتها، ذاك الذي غاب لقرون تحت هيمنة الرجال على مجالات الكتابة، ولا تزال تثري الأدب بمزيد من آرائها وتخيلاتها، حتى يأتي جيل جديد من النساء يفهم تمامًا معنى أن تُكتب المرأة بلسان امرأة.
شاركنا تعليقك من هُنا