تذكر الطريقة التي كنا ننظر بها إلى العالم يوم كانت العلاقات الإنسانية أساس حياتنا، حين كنت ترى الجيران أسرتك وتعتبر أطفالهم إخوتك. كنا جزءًا من عائلة كبيرة تجمعها قيم مشتركة، ندرك فيها أننا أفراد مؤثرون ولسنا مجرد متأثرين. نُقدر العطاء دون انتظار المقابل، ونميز بين الواجب والمستحب منا تجاه الأسرة والمجتمع.
لكن هذا النموذج بدأ يتغير مع مرور الزمن. شيئًا فشيئًا، تسلل مفهوم الفردانية إلى حياتنا، وبدأت مواقع التواصل الاجتماعي تستبيح خصوصية معتقداتنا، وتغلغلت فكرة الاستقلالية المطلقة في عقولنا.
تعود لمنزلك بعد يوم مجهد وطويل، تنأى عن الجلوس مع أفراد أسرتك بحجة أنك لم تعد تملك أي طاقة، وما أن تستلقي على سريرك حتى تنتقل للعالم الافتراضي ذلك العالم المليء بالأفراد، لا ملامح للأسر هناك. أغلب الفيديوهات القصيرة تعرض حياة مصوريها المستقلة، تنغمس في ذلك العالم للحد الذي يشعرك أن الحياة وجبت لك وحدك، وأن العيش مع مجموعة من الأفراد تساندهم ويساندونك لم يعد ذا معنى. فتسعى جاهدًا لفكرة الاستقلال بعيدًا عن أفراد أسرتك، ويخلق لديك شعور أن أي شيء يربطك بهم هو العائق أمام تحقيق أهدافك والوصول للرفاهية المزعومة التي تُعرض على تلك المنصات.
الفردانية ليست ظاهرة حديثة، بل تعود إلى العصور التنويرية، حين ظهرت كفكرة فلسفية نبيلة تشجع على التفكير الحر وتركز على حقوق الإنسان وحرياته. لكنها لم تصمد أمام تحولات الزمن، فتحولت من قيمة إنسانية إلى نزعة مفرطة، تغذي ميول الفرد إلى الانفصال عن الجماعة، سعيًا لتحقيق أهدافه الشخصية دون اعتبار للمصلحة المشتركة.
في مجتمعاتنا العربية، لطالما كان مبدأ الجماعة حاضرًا بقوة، ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن الفردانية بدأت تتسلل له تدريجيًا. وإحدى صورها غير المدركة وهي الأكثر انتشارًا اليوم، ميول الأشخاص للجلوس بمفردهم برفقة هواتفهم، متنقلين بين الفيديوهات لساعات دون التفاعل مع الحياة الواقعية. يتبنون خلال تلك الساعات مفاهيم عديدة، ويغذون حاجتهم الطبيعية للتواصل عن طريق التفاعل الإلكتروني عبر منصات التواصل المختلفة. فيخلق نمط الحياة هذا فكرة أنهم لم يعودوا بحاجة إلى أسرهم أو مجتمعهم، بل إن فكرة الخروج عن نمط الحياة المجتمعية سيضمن لهم انخراطًا أكبر في العوالم الإلكترونية وانتماءً لذلك الجانب الفرداني الذي تعرضه.
بالنظر إلى الثقافة الغربية التي أنشأت وتبنت هذا مفهوم؛ ستلاحظ بلا شك أثره الكبير على انهيار قيمة الأسرة بين أفراد المجتمع. في المملكة المتحدة، مثلًا، يعيش 34% من السكان بمفردهم، ما يجعلها في المرتبة الثانية عالميًا من حيث عدد الأسر الفردية. هذا التوجه الكبير من المواطنين للعيش بمفردهم، أدى إلى انتشار الشعور بالوحدة؛ مما دفع الحكومة إلى إطلاق “وزارة الوحدة” لمعالجة ذلك الأثر الذي خلفته الفردية السامة، وذلك بتعزيز فكرة المجتمعية مجددًا، وخلق فرص للناس للتواصل مع بعضهم البعض وبناء علاقات، وإعادة الفطرة الطبيعية للإنسان والتي تقتضي حب المشاركة والعطاء والاهتمام برفاهية الآخرين. فيتضاءل حجم الأنا الذي ضخمته نزعة الاستقلالية، ويستعيد مفهوم الأسرة جزء من قيمته. ذلك التمزيق لمفهوم الأسرة الذي تسعى المجتمعات الغربية لإعادة ترميمه هو ما يحدث الآن بشكل ملحوظ في المجتمعات العربية، التي لطالما عززت قيمها وأخلاقها في الفرد مبدأ الجماعة وأهمية الانتماء لمجموعة من الناس يعملون لمصالح بعضهم.
قد تكون أحد أهم أسباب ميول الجيل الحالي لفكرة الفردانية والاستقلال بعيدًا عن الأسرة هو الرغبة الملحة في أن يكون له خصوصية وحرية مطلقة. وهذا ما يدفعنا للتأمل في طريقة الحياة المجتمعية للفرد عند نشأته؛ فإذا لم يكن لدى الأسرة وعي كافٍ لخلق التوازن بين الحياة الخاصة للطفل أو المراهق والحياة المجتمعية له، وأُقتحمت تلك الخصوصية من قبل الأشخاص المحيطين به، ستخلق لديه تلك الرغبة العارمة في الاستقلال، وسيدمر مفهوم الأسرة والمجتمع المساند ليصبحوا في نظره أعداء وعائق يحول بينه وبين الحياة المرجوة.
بالرغم من أن فكرة الاستقلال قد تبدو بابًا للحرية المطلقة والتخفف من أعباء الإلتزام، إلا أنها تثقل النفس بأعباء أخرى لا يدركها الفرد إلا بعد أن ينغمس في ذاته، فعندما يعتقد بأن رفاهيته النفسية وسعادته هي مسؤوليته وحده، وأن عليه الوصول لها دون الحاجة لأشخاص حوله يتفاقم شعور الإرهاق والضغط، وفقًا لمقال في مجلة مختصة بعلم النفس، الفردية السامة لا تؤدي فقط إلى القلق والاكتئاب، بل تخلق حواجز أمام قدرة الفرد على مشاركة آلامه مع الآخرين. الأشخاص الذين يتبنون فكرة الفردية المطلقة غالبًا ما يظنون أنهم ملزمون بحل مشاكلهم بأنفسهم، مما يدفعهم إلى اللجوء لسلوكيات ضارة بدلًا من طلب المساعدة.ومن الطبيعي أن يحدث ذلك في عالم يعتبر فيه العيش بمفردك هو المعيار المرغوب فيه، ويخلط مفهوم الاكتفاء الذاتي بمفهوم الفردية السامة القاتلة.
شاركنا تعليقك من هُنا