صرحت إحدى مؤثرات التواصل الاجتماعي مؤخرًا عن دخلها المادي الذي تجنيه من الإعلانات فقط، وكان الدخل السنوي لها يفوق التصورات والتوقعات، مما أثار استياء الكثير من الناس. الجدير بالذكر أن تلك المؤثرة هي واحدة من أشهر المؤثرين وأكثرهم متابعة. شخصيًا، لا أبرئ نفسي من تهمة الاطلاع على تفاصيل حياتها، فإن سألتني عن عدد أفراد أسرتها سأجيبك على الفور، ليس اهتمامًا أو هوسًا مني، ولكن لأن هذا بالضبط هو المحتوى الذي تعرضه.
رغم وجود أنواع
للمؤثرين في عالم التواصل الاجتماعي، إلا أن أكثرهم شهرة وجنيًا للمال هم أولئك الذين يجعلون من حياتهم وأحداثها محتوى ثقيلًا للعرض. فلو قارنت بين عدد من مقدمي البودكاست أو صانعي المحتوى التثقيفي الترفيهي بهم، ستلاحظ دون أدنى شك الفرق الشاسع بين التفاعل وعدد المتابعين.
هذا الميل الكبير لمتابعة أحداث حياة أشخاص معينين ليس بالشيء المستحدث على الإطلاق. فقد بزغت أول فكرة لتحويل أحداث الحياة الواقعية إلى برنامج تلفزيوني في أوائل التسعينات، وهو ما عُرف حينها وإلى
يومنا هذا بمسمى "التلفزيون الواقعي"، الذي كان يركز على أحداث الحياة المختلفة لأشخاص معينين. وكأي فكرة مستحدثة، لاقت هذه البرامج هجومًا واسعًا من الخبراء والإعلاميين المختصين في المجال، حيث اتهموا هذه البرامج بأنها فارغة تفتقر إلى المحتوى، وتستغل المشاهد، وغير لائقة للبث التلفزيوني. إلا أنها في أوائل القرن الحالي لاقت رواجًا واسعًا وأصبح المحتوى الذي تعرضه مادة دسمة وأرضًا خصبة للناقدين والمحللين النفسيين وغيرهم من المهتمين بعلم الاجتماع.
مع ظهور برامج
التواصل الاجتماعي وانتشار ثقافة التدوين المرئي، أصبحت حياة كل شخص بمثابة "تلفزيون واقعي" قابل للعرض وبأقل تكلفة مقارنة بتلك التي تعرض على التلفاز، كل ما عليه هو أن يسلم لفكرة أن حياته وحياة من حوله هي ميدان واسع ومفتوح لكل من أراد الخوض فيه، وفي المقابل، سيلقى ثراءً فاحشًا، وصيتًا واسعًا، ومحبة جنونية، وبمجرد تخليه عن فكرة الخصوصية تنشأ علاقة طردية بين محتواه وعروض الإعلانات التي تنهال عليه، فكلما توسع في كشف أجزاء من حياته وجعل أطفاله ومن حوله شريكًا في هذا البرنامج الواقعي الذي لا نهاية له،
كان انخراط الناس في متابعته أكبر باختلاف نياتهم؛ فمنهم الناقد اللاذع أو المحب المهووس أو الفضولي... إلخ. أعداد المتابعين تلك هي ما تحدد ارتفاع الدخل المادي من عدمه.
هذا المشروع بسيط التكلفة وعالي الدخل جعل العديد من الناس يتجهون لفكرة أن يجعلوا تفاصيل حياتهم محتوى يُعرض على الميديا. فلو عدت لبدايات بعض المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي ستجد أن محتواهم كان يركز على حرفة أو مهنة معينة برعوا فيها، فمنهم من كان ممثلًا، ومنهم المقدم، والمغني، والرسام،
والكاتب، والطاهي وغيرهم ممن أبدعوا في مجالاتهم. لكن مع الوقت، وبعد إدراكهم أن التفاعل الأكبر لا يأتي من مهاراتهم أو مواهبهم، بل من حياتهم الشخصية وتفاصيلها الدقيقة، بدأوا بتغيير طبيعة المحتوى تدريجيًا. أصبح التركيز ينصب على الأحداث اليومية، والعلاقات العائلية، والمواقف الشخصية، لجذب المتابعين وزيادة التفاعل.
وهذا ما أثار استياء مجموعة كبيرة من الناس الذين طالبوا بأن تتوقف الشركات المعلنة عن ضخ مبالغ طائلة على أولئك المؤثرين، مبرهنين ذلك بأنه تشجيع للجيل
القادم على التوجه لصناعة المحتوى الفارغ القائم على عرض الحياة وجني المال السهل في مقابل التضحية بقيّم أسمى والتخلي عن مهن أهم وثقافة مثرية. شخصيًا، أتفق تمامًا مع نظرتهم ومطالباتهم، وإن فسرها البعض على أنها مطالبات حسودة نابعة من غيرة ومقت. إلا أنني أجد أن جزء كبير منها منطقي؛ فالمجتمعات تنهض وتزدهر بأفرادها. تخيل معي أن يكون غالبية أفراد المجتمع ممن يعرضون حياتهم وينالون المكانة والتقدير والثراء على ذلك. بالتأكيد أن هذا التأثير سيمتد لبقية أفراد المجتمع غير المنخرطين في الصناعة، ويشوّه هذا
التوجه في صناعة ذلك النوع من المحتوى ثقافة الاستهلاك الإعلامي، فتتحول النقاشات العامة إلى مواضيع سطحية مثل مدى جمال منزل فلان الجديد أو أسباب انفصال فلانة عن فلان، بدلًا من التركيز على قضايا أعمق وأكثر أهمية.
قد يكون الحل الأمثل هو أن تتوقف الشركات المعلنة عن استهداف المحتوى الفارغ لتحقيق مصالحها وأهدافها المادية دون إعارة أي اهتمام للمصلحة العامة، فبدلًا من ذلك، يمكن توجيه الإعلانات نحو صانعي المحتوى التثقيفي والترفيهي الذين يقدمون جهدًا حقيقيًا في
صناعة محتوى ذو قيمة ويحمل رسائل هادفة.
شاركنا تعليقك من هُنا