يقول فيكتور فرانكل:
“إن المعاناة تتوقف عن أن تكون معاناة بشكل ما في اللحظة التي تكتسب فيها المعاناة معنى”
وأقول في سياق الفعل والانضباط: إن الانضباط يتوقف عن كونه انضباطًا منهكًا للنفس متى ما دعمه الدافع.
دفعةُ الدافع للفعل تمنحه دورانًا مع عجلة الحياة ليتكرر مرة إثر المرة متحولًا إلى عادة، ومتى ما صار الانضباط انخراطًا ومعايشة تخلّقت فيه دوافع ومشاعر جديدة تعزز استمرارنا، بل قد يبدأ الانضباط بلا دافع ولا شعور ملموس ثم يصير سبيلًا إلى تلمّس واكتشاف الشعور أو الدافع الذي يدعوك إلى تكرار التجربة!
وأذكر في سياق الانضباط والمعايشة تجربتي البسيطة واللطيفة في أواخر أسابيع إجازة صيف 2021، حيث أجبرت نفسي على تجربة وصفة خبز البابكا بالبرتقال –الوصفة التي احتفظت بها لسنة دون أن أطبقها!- لأجد نفسي فيما تبقى من أيام إجازتي أتمتع بروتين صباحي يشرقُ بالخَبز فجرًا! كانت رغبةً ضئيلة بتجربة وصفة قد تبوء بالنجاح أو الفشل، ثم نَمَت لتصبح رغبة يومية بتجربة وصفات مختلفة للخبز أسارع في كل مرة بإرسال صورها لأفراد العائلة حفاوةً بمخبوزي الصباحي.
كانت تجربة ممتعة ولم تخلُ من ظلالها الطيبّة على النفس؛ حيث أن هذه الممارسة اليومية تحولت دون أن أعي إلى طريقة ملائمة انسلّ من خلالها قلقي حيال الأيام الدراسية القادمة، فالانضباط والانخراط في روتين ينهي فوضى إجازتي كان وسيلة للانغماسِ في هدأْته بدًلا من التشتت داخل وشوشة قلقي، وهو ما وجدته مطابقًا للفكرة التي يطرحها معالج نفسي في مقطع شاهدته مصادفةً لجوردن بيترسون، يقول فيه: “لا أحد يستطيع أن يعيش بدون روتين، أنتم فقط تنسون ذلك، إذا لم يكن لديك روتين فإنني أوصيك بالحصول على روتين، لأنك لا تستطيع أن تكون بصحة جيدة عقليا بدون روتين، تحتاج إلى اختيار وقت للاستيقاظ، مهما كان الوقت الذي ترغب به، لكن اختر وقتا والتزم به، وإلا فإنك بخلاف ذلك تتجاهل إيقاعاتك اليومية، وهي المسؤولة عن تنظيم حالتك المزاجية، وتناول شيئًا في الصباح.. أنت لم تتناول الطعام طوال الليل، وإذا أثقلت على نفسك ذهنيا أو فسيولوجيا في الصباح، سيشجع الإجهاد العقلي جسمك على إنتاج الإنسولين وسيأخذ كل سكر الدم من دمك.. ستكون قلقا”.
وفي تفكيكٍ لكيفية عمل العادات أورِد خلاصةً لما أورده تشارلز دويج في ملحق كتابه (قوة العادات).
صورة النسخة العربية من كتاب : قوة العادات، لـ تشارلز دويج
تعمل العادات في إطار حيوي:
تحديد الأمر الروتيني.
تجربة المكافآت.
عزل الدليل.
وضع خطة.
وحسبما وجده الباحثون، وجد في صميم كل عادة حلقة عصبية تحوي ثلاثة أجزاء، فمثلًا، عند تغيير عادة تناول أطعمة تحوي السكر المضاف.
فكّك عادتك بطرح التساؤلات:
اسأل نفسك عن الأمر الروتيني : ما الأطعمة المحلاة التي أتناولها بشكل متكرر كعادة يومية؟
وتعرف على الدلائل باكتشاف مثيرات الأمر الروتيني : ما الذي يدعوني لتناولها ؟ ما هي ظروف وأوقات تناولها ؟ هل أتناولها عند الجوع ؟ أم عند شعوري بالملل ؟ أم عند انخفاض السكر في الدم ؟ أم للمشاركة في الطعام كنشاط اجتماعي ؟
واكتشف المكافأة : ما الذي يعجبني في ذلك ؟ طعمها هي بالذات ؟ أم لتشتيت الانتباه ؟ أم لأخذ دفعة طاقة من السكر ؟
بعد طرح الأسئلة ستتمثل الخطوة القادمة بتجربة المكافآت؛ فعند الشعور بالدافع لتناول الأطعمة المحلاة، جرب في كل مرة أن تغيّر، فمثلا تناول صنفا آخر لم تجربه من ذي قبل، أو جرب أي سلوك بديل بغرض أن تعيش مرحلة جمع تجارب جديدة وتتعرف على مكافآت جديدة دون ضغوط تغيير العادة، وستكتشف حينئذ سلوكيات إضافية بمكافآتها وهي التي يمكن أن تحل كعادات بديلة.
حينئذ سيتبقى وضع الخطة، فإذا كان الغرض من عادةٍ ما هو طرد الملل والانخراط في نشاط اجتماعي، ستحدد وقت عادتك القديمة كل يوم بدقة، وستضبط منبه للالتزام بعادة جديدة في نفس وقت العادة القديمة؛ لتحقيق الدافع القديم في عادة جديدة.
وبالعموم، لكل عادة تحدياتها، في البدء أو الترك، وحتى وإن لم تنجح في أحدها، فلن تفشل في اكتساب رؤيةٍ مُسائلةٍ دؤوبة، لذا، فتش دائمًا عن فعل وَجِد منه دافعًا، أو فتش عن دافع وَجِد له فعلا، ثم استمتع بانسياب الأفعال من الحزم والانضباط إلى السيرورة والاعتياد!
اعتمدنا في كتابة المقالة على المصادر التالية:
- الإنسان يبحث عن المعنى: مقدمة في العلاج بالمعنى التسامي بالنفس. فيكتور فرانكل. ترجمة طلعت منصور.
- https://www.youtube.com/watch?v=FBLZoDehFGg .
- قوة العادات: لماذا نعمل ما نعمل في الحياة الشخصية والعملية. تشارلز دويج.
