لوحة رسمها ثائر هلال للأديب: محمد الماغوط.
“أيها المارةُ اُخْلُوا الشوارعَ من العذارى والنساء المحجباتِ
سأخرجُ من بيتي عارياً وأعود إلى غابتي”
محمد الماغوط
قمت بتربيةِ ببغاءٍ من نوع (كاسكو)!
ومع الأيامِ وجدتُه ينتف ريشَه بمنقارِه كرجلٍ يشد شعرَه من فرط المصيبة.
دخلت عليه يوماً لأجدَهُ عارياً من الريش، صامتاً مشدوهاً مثلَ من يجلسُ في عزاء، فداهمتني أسئلةٌ كثيرةٌ عنه، وعن عالمِ الحيوانِ، وعنّا نحن البشر، وعن مدنِ الإسمنتِ والغاباتِ الخضراء!
يبدو أنه لا اتصالٌ بين ببغائي الحزين وتلك المواضيع التي تسائلت حولها، لا بأس.. هكذا تبدو الأمورُ عادةً غير واضحة.
عندما سألتُ أحدَ المختصين في مرافقة الطيور، قال لي أن هذا الببغاءَ مكتئب!
ببغاءٌ مكتئبٌ ولديه اعتراضاتٌ وجوديةٌ على حياتِه جعلته يسلك هذا السلوك التدميري للذات!
لمَ كان الببغاءُ مكتئباً؟
هنالك عدة أسباب؛ فربما يكون معترضاً على نوعيةِ الأكل، وربما يكون اعتراضُه على القفص، أو على الغرفة، أو على المنزل برمّته؟
فهو كما تعلم خُلق للطيرانِ في سماءِ حريتِه، والرقصِ مع أقرانِه، وخُلق أيضاً للأشجارِ إذ يتكئُ عليها ويغني أغانيه الحزينةَ أحياناً والفرائحيةَ أحياناً أخرى!
بمعنى: أنه قد خُلق لحريته، في منطقتِه، وفقَ بيئتِه، ووفقَ سلوكِه التكيفيّ.
ما علاقةُ هذا بي وبك؟ وبالمدينةِ والغابةِ والجبالِ والسهول؟
قادني ببغائي لفكرةٍ كنت أحومُ حولَها دائماً، وتلك عادةُ الطيورِ منذ هابيلَ وقابيل، إذ تلقي علينا المحاضراتِ والدروسَ لتخبرَنا شيئاً عن العالم، وشيئاً عن أنفسِنا.
هل خُلقنا كبشر لهذا العالم الجديد الذي بنيناه وحبسنا أنفسَنا فيه؟
هل صُممت أجسادُنا ونفوسُنا لتجلسَ في مكعباتِ الإسمنتِ المنزلية؟ تحت ضوضاءِ الأجهزةِ والآلات، وتحت ضغطِ العمل، ورسائلِ الإيميلِ المربكة، وأخبارِ السوشل ميديا المفزعة؟
لطالما شعرتُ أن نمطَ الحياةِ الحديثَ تسبّبَ في موجة القلقِ والاكتئابِ التي يعيشُها الإنسانُ الآن، فنحن نعيشُ في غيرِ بيئتِنا التي خُلقنا لها، فهذه البيئةُ الحديثة المصنّعة لا ترتبطُ بتاريخِنا الجينيِّ بل تناقضُه كلَ التناقض، فنحن لا نملك علاقةً طبيعيةً مع الشروق والغروب، ولا نملكُ علاقة طبيعية مع النباتاتِ والحيواناتِ ولا نتنفسُ هواءً طبيعياً أصلاً.
فنحن محبوسون في مكعباتِ الإسمنت نستقبل هواءً مصنّعاً بفعل التكييف، ونتحرك فوقَ دوابِّنا الحديدية محاطين بقلق الزحام وأصواتِ منبهاتِ السياراتِ المقلقة.
تقلقنا إيميلاتُ العمل، ويملؤنا خوفٌ مصنّعٌ ووهميٌّ من أن هناك شيء سيفوتنا..
فنحن إذن ضحايا عصرِنا، ويبدو أن سببَ انتشارِ الاكتئاب في عصرنا هو نمطُ الحياةِ الحديث، الذي طرأ قبل قرابةِ مئتي سنة.
إذ تحلم الآن بالعودة للبرية، لكنك كإنسان في العصورِ الحديثة قد سُلبت منك مهاراتِ التكيفِ والصيدِ في البرية، وأُعطيت بدلاً منها مهارات التكيف في سوق العمل داخل مكعباتِ الإسمنتِ الحضاريّة.
إن نقيضَ القلقِ هو التقبّل، وإن عيشَك في عصرٍ يحثُك على اللاتقبل في كلِ المستويات؛ ألا تتقبلَ شكلَك ولا تتقبل علاقاتِك ولا تتقبل أسرتَك، ولا تتقبل رزقَك، إذ يُدخلُكَ في موجةٍ عارمةٍ من القلق المتشظي من عدم إمكانية ضمانِك لمكانةٍ أفضل على هذه المستوياتِ التي لا تتقبلها.
لذا هو عصرُ القلق.
حيث تحثُك الإعلاناتُ على عدم تقبلِ ما تمتلكه، ويحثك المشاهيرُ على عدم تقبل حياتِك، ويحثك فلترُ السناب على عدم تقبّل ملامحك.
لذا أنتَ تعيشُ في فقاعةٍ من القلق، قلقُك من أنك لا تضمن قدرتَك على تغييرِ تلك الأشياء
ويبدو أن الحلَ لمشاكلِنا الحداثية،
يكمن في إعادة تقييم علاقتنا بالطبيعة، أن نستيقظَ فجراً كالطيور، لنستقبلَ مشهدَ الشروقِ المهيب؛ وأن نحيط أنفسنا بالنباتاتِ المنزلية في غرفِنا وأماكنِ عزلتنا، وأن نزيد من مرافقتِنا للحيواناتِ الأليفة التي تمنحُنا معنىً آخرَ للعلاقات، وأن نحرص أيضاً على مراقبةِ الغروب الجميل الذي أخفته عنا الأبراجُ المتراكمةُ في المدن.
ربما لو أعدنا صياغةَ علاقتِنا بالبيئة لن نقلق، ولن نكتئبَ بشكلٍ متطرف، وسنعطي أجسادَنا وأرواحَنا حقَها الأصيلَ في أن تنتمي للطبيعةِ الأم.
ولابد لنا أن نجعلَ الرياضةَ روتيناً يومياً لنا، فهذه الماكينة المسماةُ جسدك، قد خلقت للركض في البرّية ومطاردةِ الفرائسِ لتعيشَ وتنمو .. وهذا الدماغُ الذي يسكن جمجمتَك مبرمجٌ أصلاً لإعطاءِ مكافآتٍ تتمثلٌ في هرموناتِ سعادةٍ يفرزُها لك.. مكافآتٍ فوريةٍ على كل جهد بدني تبذلُه.
لهذا تشعر بنوع من السعادة بعد خروجِك من صالة الحديدِ مثلاً، لأنك قد خُلقت للركض لا للاستلقاء على الأرائك.