في خضم البحث عن وظيفة جديدة والساعات التي أقضيها في لينكد ان للبقاء على اطلاع أو الحديث مع الآخرين بشأن التوظيف واتجاهات السوق الحديثة تنبهت لموجة تجتاح حاليا سوق الوظائف في السعودية، حسبما سمعت وشاهدت بتفضيل الكثير من الشركات لحديثي التخرج وعدم تفضيلهم لأصحاب الخبرة المتوسطة ( بين 5-10 سنوات) وذلك للعديد من الأسباب منها تقليل الرواتب والاشتراطات وسهولة فرض أنظمة العمل والتطويع واستغلال حماس المبتدئين بمهام خارجة عن الوصف الوظيفي بحجة الخبرات، وبذلك انقسمت الشركات إلى إدارة عليا بخبرات كبيرة تفوق العشرة سنوات يقومون بوضع الخطط والإستراتيجيات وإدارة الأقسام الكبيرة وبقية الموظفين حديثي تخرج أو عبر برنامج تمهير للقيام بالأعمال الروتينية وتطبيق الاستراتيجيات بحذافيرها، لست هنا في مجال الحديث عن صحة الأجراء أو تأثيره على سوق العمل والتوظيف أو مدى انتشاره حتى،
وإنما عن الموجات التي تجتاحنا كأفراد وكمنظمات.
كفرد من هذا المجتمع
وُلد في حقبة معينة طُبعت بصورة نمطية معينة مررت بالعديد من التحولات الفكرية والثقافية والدينية على مستواي الشخصي وعلى مستوى الفكر الجمعي والعائلي أيضا، كانت العادات والتقاليد هي المهيمنة على الفكر وعلى سيرورة واختيارات المرء في حياته الشخصية والعملية، سار المجتمع دهرا يقوده سوط العادات والتقاليد ضاربا بيد النبذ على كل من شذ عن نظام الجماعة، حتى حدثت نقطة التحول في البداية بشكل بطيء وتسارعت ككرة ثلج منحدرة من علٍ، فإلتهمت ما تبقى من العادات والتقاليد المترسخة، ليحاول كل فرد أن يصيغ مبادئه وفكر عائلته بشكل مستقل عن نظام الجماعة، فرأينا أحيانًا صراعات ثقافية داخل أسرة واحدة، وصراعات في الهوية الدينية بين الزوج وزوجته، ثم كان لوسائل التواصل الاجتماعي كلمتها وتوقيعها في هذا المجتمع، فأصبح الترند هو السائد بدلا من العادات والتقاليد!
نرى انعكاس ذلك في الملابس والهيئات، وفي توجه أندية القراءة والأندية الرياضية، وحتى في تنظيم المناسبات والاحتفالات والكافيهات نجد مرآة التصوير تتسيد الممر الرئيسي، واضاءة السيلفي تضاف في الحفلات العائلية ليخرج الحضور بصور وذكرى يشاركونها مع الجميع في وسائل التواصل، لم يعد الكبير يطالب باحترامه وبعدم التقاط سيلفي بوجوده وإنما أصبح يظهر في الصور والفيديو وأحيانا بمشاركته شخصيا.
أصبحت موجة ركوب الترند هي السائدة بدلا من الأسس والمبادئ وبدلا عن العادات والتقاليد التي تسيدت لسنوات وسنوات، حتى في قطاع الشركات والمنشآت، لا نكاد نجد شركة محلية ذات توجه إداري أو مختلف عن الأخريات، بل نجد كل شركة تتبع أختها بسلم الرواتب والهيكلة الوظيفية والمسميات وطرق الاحتفال بالمناسبات أو الترحيب بالموظفين الجدد، لا أنكر أن هذا حرّك بعض المياه الراكدة في القطاع الخاص، ولكن توجه الترند قتل روح التجربة والابتكار والإبداع الشخصي، أصبحنا مقلّدين متشابهين، بمنظومات/أسر مترهلة تعتمد على النسخ واللصق وعلى تدوير الأفكار بحذافيرها دون إدراك لمدى صلاحيتها لواقعنا نحن دون غيرنا.
إن كوننا جيلًا عاصر هذا التحول الهائل في المجتمع؛ اكسبنا مهارات كثيرة وزاد عند الواعي منا دقّتهُ في الملاحظة والتحليل، ولكن سيطرة الترند واللون الواحد للحياة المثالية كشخص و أسرة و مجتمع و بيئة عمل ونمط حياة جعلنا نحيد كل شاذٍ عن هذا النمط ونقوم بوأد العديد من الأفكار الخلاقة قبل أن تطرح حتى.
إني أحث وأشجع الشركات على تشجيع الابتكار في التوظيف وفي أساليب الإدارة وجلب كل نظرية جديدة في مجالها بدلا من الاستنساخ، كما أحث الأسر والأفراد على النظر في دواخلهم وترتيب أولوياتهم ورغباتهم الخاصة قبل أن ينظروا في حيواتِ الآخرين عبر التيك توك وغيرها، أن يديروا حياتهم كما يرغبون لا كما يشاهدون، إن فرحة الخروج بفكرة واحدة جديدة تلهمك لمئات الأفكار الخلاقة التالية مما يرفع الثقة في الأفراد والمجموعات والمنظمات، ويزيد من الاستقلالية والاعتماد على الذات.
كل ما آمله
أن نتجاوز موضة الترند المستمدة من وسائل التواصل، كما تجاوزنا بعض العادات والتقاليد من قبل وأن نبدأ ابتكار ما يناسبنا نحن بطريقتنا نحن وثقافتنا نحن بما يتسق مع طبيعتنا وبيئتنا و طقسنا الخاص، لنعيش حياة متصلة بماضينا و طامحة لمستقبلنا.