جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

كتابة مذكرات حياة عادية
10 آذار
الأدب والفلسفة

كتابة مذكرات حياة عادية

10 آذار

|

الأدب والفلسفة

– ما قصة الإنسان الذي تم إنقاذه عن طريق تدوينةٍ قديمة كتبها؟

– أكثر لحظاتكَ عاديةً تتحول بمرور الوقت إلى أهم لحظاتِ حياتكَ، هل ما تزال راغبًا في أن تحياها وفق تقسيم كل لحظةٍ إلى مهمة / غير مهمة؟

– أعاني من ثرثرةٍ عقليةٍ صاخبة، وذبولٍ قسري في الإحساسِ باللحظة. ثمة أورام غير مرئية تدعى السأم، تغلف الوجود حولي بصحيفةٍ من الرؤى الحالكة. أيكونُ قلبي بحاجةٍ إلى إنعاشٍ طارئ؟

– من سيخبرنُي أن لحظتي الراهنة والتي أحسبها ضئيلةً وعادية هي أعظمُ ما وُهب لي؟ من يا ترى سيقولُ لي أن حياتي أهم مما كنتُ أتصور؟

– عمّ ستفصحُ لنا مُذكراتنا القديمة إن عُدنا لقراءتها مجددًا؟

قالَ ضجيجُ أصواتٍ في رأسي: أفكارٌ صغيرة كانت تتفاقم، تنتهبُ كيانه. أفكار مقدودة من نار. تتسربُ بتخابثٍ إلى عقلهِ. هنا بالذات، في هذا الوقت، تذَكر ما دونهُ قبل عام، في ليلةٍ أضرم القلقُ فيها رأسه. قلقٌ متواصل بدائي. تذكرَ أن يقرأَ مذكرتهُ التي تعود. لذلك الزمن.  عن تجوالٍ أنقذه، وعن تدوينةٍ كتبها في يوم مرعب.

مساءُ الأحد 9:45  

إنه الليل، الليلُ فقط، وهذه اللحظة حيثُ يلوح في البدء ضوء شفيف، أقرب لصفرةٍ باهتةٍ، كشمسِ يومٍ بارد. من نافذةٍ مُضاءة تحجبها ستارة شفيفةٌ. لا شيء مُهم. الأحداثُ تبدو ضبابية، غير مرئيّة، ومن ثمَ يَتناهى مِنها ظلّان: رجلٌ وصبي. الآنَ تبدت لي أشياء أُخرى تتحرك وتلمعُ، أصواتُ أطفالٍ، ضحكة خجلى لامرأة في الطريق، وهذه البلبلةُ الصاخبة، تعودُ في رأسي، والأحاسيس المُضطربة المشوبة بالخوف.

يبدو المكانُ معتماً في داخلي. لوهلةٍ حينَ اتجهتُ بنظري إلى المباني المُحاذية، بدت لي النوافذُ أقلُ خفوتاً من المعتاد، وبدأت الأصواتُ العالية على إثرها تخبو في رأسي. إنَها الأشياءُ المعتادة تتداعى ببطءٍ، المرأةُ المسنة وهي تمشي بخطواتٍ متأنيةٍ، حفيفُ أوراقِ المساءِ وهيّ تسدلُ ظلالها على الطرقات. في هذه اللحظاتِ، حيثُ لا شيءّ مهم سوى الحضورُ الكُلي، يتسنى لي أن أراقبَ تنفسي. وأنا أُباشر بكتابة هذه المُذكرة- سريعًا، ومضطربًا، إلا أنه يؤولُ إلى الانتظامِ، ما إن أبدأ بذكر التفاصيل الصغيرة التي لاحظتها. 

الاهتمام بالتفاصيل

إنَ الاهتمام بالتفاصيل العادية اجترني من حيز عقلي نحو اتساعٍ خارجيٍ غير محدود. غدوتُ أكثر تناغمًا. في لحظةٍ عادية بينما تحتضنُ أطراف أصابعي القلم وتلمعُ بحيرةٌ ما صافية بيضاء على ورقة المُذكرة استراحَ عقلي. كان ثمة أصواتٌ تتضاءلُ، وبتُ أشعرٌ ُ ببرودةٍ منعشة تتسللُ إلى روحي. 

“الحياةُ رحلةٌ رائعة رغم كل ما فيها من آلام” – عبد الحليم حافظ

تساورني هذهِ الأيام رغبة محمومة، رغبة قسرية لتجميع أجزاء متفرقة من ذكرياتِ حياتي. أرغبُ أن أتذكرَ الأشياء، والصورِ، والوجوه، وأن أعيدَ سيرةَ الأحداث الصغيرةِ والكبيرة لا كما رآها عقلي آنذاكَ، بل كما تومضُ الآن كالنجوم، وتشتعلُ في أعماقي. أو ليسَ من الغرابةِ بمكانٍ أننا – وعلى مُضي أعوام – نُكدس مُذكراتنا كشيءٍ يجبُ أن يدفن بعيدًا، ويوارى لأرذل العُمر؟ كُل هذا الكم من الحياة يتحولُ بفضلِ أناسٍ آخرين إلى كتلةٍ ضئيلةٍ يحوطها الغبار، وتساؤلات من نوع: أتذكّرُ ماذا؟ أحياتي البائسة المغلفة بسأم الوجود؟

حين أقرأ مذكراتِ إنسانٍ عاش قبل أن أوجدَ بمائة عامٍ، عاش زمنًا طويلاً جدًا، ثقيلًا، وعادياً على نحو مرعب، أحسُ بأهميةٍ تكادُ تكونُ متطرفةً لأبسطَ حدثٍ مُدونٍ برشاقةٍ بسيطة. كأثر شجرة البلوط على ذاكرةِ آسرةٍ تعيشُ مأساةَ حربٍ، وكيفَ كانت- من دون كُتب تتحدثُ عن الحب- تُعبرُ بحرارةٍ آسرةٍ، بصدقٍ عن أحاسيسها. أو كالدُمية التي- وسطَ كثافة الخوف- هدهدت طفلاً. سردياتٌ عاديةٌ، كأقصوصةٍ ما بعد الظهيرة التي تروى للأطفال، يمكن أن تحملَ رسالة مهمة لإنسان يعيشُ على بُعد آلاف الأميال من عصرٍ مغايرٍ. رسالة مفادُها أن أكثر لحظاتكَ عاديةً تتحول بمرور الوقت إلى أهم لحظاتِ حياتكَ. المذكرات إنعاشٌ طارئ للقلب. إن أول بادرةٍ تنتابنا تلمسُ – على نحوٍ سريعٍ وبطريقةٍ موغلة – أحاسيسنا. كُل اللحظاتِ التي عَبرت ذاكرة عقولنا، والتي لم تمس حينذاكَ مشاعرنا، تُوقظنا الآن، توقظُ وعينا الفردي والجماعي على أهميةِ أن نولي كل لحظةٍ نعيشها – مهما بدت سطحية- عنايةً فائقة توقظُ مشاعرنا تجاهها مجددًا، وتجاه كل ما هو حولنا. 

هِباتٌ كثيرةٌ، هباتُ الذكريات، أن نكتبَ، أن نتذَكرَ، أن نجمعها، أن نستشعر كم يبدو هذا حالمًا.  لكننا لن نستطيع تقديرَ قيمة اللحظة – التي نصفها (بالعاديةِ جداً) – إن لم نستوعب بعدُ قيمة ما عشناه. ولعلَ هذا أحد دوافعي للتذكرِ. أن أدركَ القيمة الجوهرية لكل ما عشتهُ لأستوعبَ القيمة الجوهرية لحياتي.

شموس صغيرة مختبئة

تكشفُ لنا المذكرات عن شموسٍ صغيرةٍ وجوهريةٍ مختبئةٍ بينَ الصدوعِ التي تتشكلُ في لوحةِ حياتنا. تقودنا إلى الباب الذي يخفي أسرار معاناتنا، كل معاناة مررنا بها. من خلال إضافةِ معنى حقيقي لها. المذكرات هي وصلٌ بين كل الطرقِ والتجارب التي اجتزناها، ولا يستطيعُ إنسانٌ أن يتبينَ خطَ حياتهِ كله بشقيهِ الداخلي والخارجي ما لم يدونهُ، ما لم يسمح لنفسه أن يكتبه. إن حياةً عاديةً بمنظورِ إنسانٍ ما يمكن أن تغدو كنزًا حين تُجمعُ أجزاؤها كلها.

المذكرات روح الإنسان وهي ترسمُ إحساسه بالزمن

تُعيدنا كتابة المذكرات إلى أصل إحساسنا بالزمن، وإلى انفتاح الكينونةِ على درجات إيقاعية متفاوتة ومغايرة كما لو أننا نرسم اللحظة الماضية استعدادًا للإحساس باللحظةِ الراهنة. ذلكَ أننا نغدو أكثر يقظة في الشعور بماهية الزمن وبأمواجهِ التي تعدو في كرٍ وفرٍ كالمد والجزر والليل والنهار وهما يتعاقبان. إن السر الكامن في مذكرات إنسان ما يحمل بالدرجة الأولى تطورات أحاسيسه ونظرتهُ للتقلباتِ الوجودية من حوله، وتستمدُ هذه المذكرات أهميتها من كونها سرد داخلي وإنعاش للوقت الأزلي الذابل. [/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]

6
0
اشتراك
تنبيه
guest

0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

كتابة مذكرات حياة عادية
10 آذار

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 5 دقائق
الهوية البيولوجية
7 آب

|

الأدب والفلسفة
وقت القراءة: 3 دقائق
متعة تفويت الفرص
8 أيلول

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً