يتغيّر معنى سياق حسب السياق الذي ترد فيه، أما إن قيل سياق الكلام فمرادها مجراه و سرده و نقول خارج السياق للإشارة إلى عدم الارتباط، فإن وصف أمر ما بأنه خارج السياق فذلك يعني إلى أنه غير مرتبط به ما يعني أنه إن كانت الكلمة أو الفعل خارجين عن السياق فهم يظهران شكلًا من أشكال عدم الانسجام و فقدان التناغم. و في العلاقات عمومًا نحتاج إلى أن نقارب السياقات بين سياق حياتنا و سياق حياة الآخر و يعود اختلاف السياقات فيما بين طرفي العلاقة إلى عدة أمور أبرزها وأولاها النشأة في بيوت مختلفة لها أساليب تعامل وتربية مختلفة و يليها اختلاف الظروف التي يمر بها المرء لاحقًا. و تتمثل هذه الظروف في العقد النفسية التي تتشكل منذ الطفولة مرورًا بتجارب الحياة من فقد و كسب و من تجارب فاشلة و ناجحة تترك أثرها على الفرد و تحدد مدى تحذّره و تحسسه و اقباله و تقبله.
لذلك قد يبدو للوهلة الأولى أن بذل الجهود في مقاربة السياقات في العلاقات الأخوية أقل أهمية أو بمعنى أصح ليست ذات جدوى لأن السياق في أغلبه واحد وإن اختلفت تجارب الحياة لاحقًا، فالأغلب أن الأخوة على اطلاع بما يحدث لبعضهما الآخر و السواد الأعظم من الأفراح و الأتراح و النجاحات والفش تكون مشتركة إلا في بعض الحالات التي تفتقد معه الأسر للتشاركية، و تشابه السياق وتقاربه يعود بالدرجة الأولى لتلقي الإخوة نشأة واحدة. إنما نحتاج إلى بذلك المجهود كلما بعدت علاقة الدم و قربت علاقة الروح و تشاركية الحياة و ذلك في علاقاتنا مع رفقاء العمر و الأصدقاء المقربين و شريك الحياة و كلما قربت العلاقة زاد الاحتياج إلى مقاربة السياقات من أجل الوصول إلى حالة من الانسجام والتناغم.
قبل أيام معدودات غضبت من صديق مقرب و لم أبد غضبي بشكل من الأشكال لأنني فسرت تقصيره تعمدًا و إهمالًا لا يوجد ما يبرره، استمر الغضب حتى التقيته في لقاء اعتيادي لم أتطرق خلاله إلى غضبي و لكنه بادر في الاعتذار بأنه مقصر و أشار إلى مرض والدته سببًا في ذلك. و في لحظة انطفأ غضبي دفعة واحدة و كأنه لم يكن، و ودت أنني لم أغضب فهو أقرب و أحب إلي من أن أغضب منه وهو في هكذا حال. إن ما بين السيطرة على غضبي و مشاعري و انفراجه هو مقدار التقارب في السياق، حيث أنني في غضبي لم أكن في الصفحة التي يمر بها و عندما اطلعت عليها بات كل الغضب شعورًا تافهًا.
في الحقيقة لا يمكننا تجاهل العاطفة و الظروف الشخصية في العلاقات المقربة كما نستطيع تجاهله كلما بعدت العلاقة، فالقلب المحب المقرّب يتعذر عليه أن يصنع سبعين عذرًا دون مؤكدات على هذه الأعذار، التعذر للآخر دون معرفة أسبابه ملائم بصورة أكبر للعلاقات الأقل عاطفية ذلك أن التحسس من الآخر غير المقرب احتماليته قليلة. إنما الصورة الاعتيادية فهي: “لأنني أحبك أغضب منك إذا قصرت دون أن تخبرني ما الذي حل بك، إن المسألة تبدو واقعية للغاية فما الذي قد يغضبني ممن لا أكن له مشاعر البتة؟!
يقول طرفة ابن العبد:
“وظلم ذوي القربى أشد مضاضةعلى المرء من وقع الحسام المهند”
و كما أن ظلم الأقربين أشد وقعًا من ظلم الأبعدين فإن تقصيرهم كذلك أشد وقعًا على النفس من تقصير سواهم و كذلك يقاس على الخذلان و الكلمات الجارحة و غيرها مما له وقع على المرء و ذلك يشمل الجانب الإيجابي.
و حيث أنه ليس سهلًا أن يبرر كل منا موقفه في كل مرة؛ لأن الحوار سيصبح مبتذلًا على هذا النحو و هو الذي قد تحدثنا عن أهميته لبناء علاقة مستدامة، لكن الوسيلة الأخرى هي إبقاء الآخر على اطلاع إلى جانب حسن الظن و التعاطف المسبق. و السبيل إلى ذلك هو معرفة ما مر به المقربين من ظروف و التعرف أكثر على نشأتهم ما يجعل المرء أكثر قدرة على تجنب إيذاء الطرف الآخر و كذلك إلى التعاطف و تخمين أسباب الغياب والتقصير فيتحول العتاب إلى مساندة فيجد الأحبة و الأخلاء بعضهما لبعض سندًا و عونًا و لكيلا يكونا على بعضهما سيوفًا مهندة.