جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

إنسان المهارات المتعددة
30 كانون الثاني
الفنون والإبتكار

إنسان المهارات المتعددة

30 كانون الثاني

|

الفنون والإبتكار
بدعم من

لطالما تداول الناس أمثال سلبية ومحطمة للشخص الذي يميل لعدة اهتمامات في مجالات مختلفة، فباللغة العربية يطلق عليه مثل «سبع صنايع والبخت ضايع» وبالإنجليزية (jack of all trades, master of none) والسؤال هو لماذا يتم تداول هذه الفكرة بشكل سلبي رغم أن صاحب المهارات المتعددة مطلوب في بيئات العمل الحديثة؟

أذكر المرة الأولى التي تفاديت فيها أن يطلق عليَّ هذا اللقب، كانت في السنة الأولى من المرحلة الثانوية حينما انتهيت من رسمة وسألت إحدى زميلاتي في الصف عن رأيها وكان الجواب هو الصفعة التي تلقيتها لأتوقف بعدها عن الرسم لعدة سنوات «حلوة، بس انتِ كل شيء تبغين تسوينه؟!». كان جوابها بالنسبة لي حينها مقنعًا، فلم يقتصر توقفي على الرسم فقط، توقفت أيضًا عن الكتابة وعن محاولاتي العديدة في تعلم فصل الحواس لعزف البيانو، فلا أريد أن أكون صاحبة السبع صنائع بالطبع، بالرغم من أنها هوايات مختلفة قد تقودني مع الاستمرار لمجالات واسعة إلا أنني فضّلت تفادي أحكام المجتمع والتركيز على مجال واحد وهو الأهم في نظر الجميع «دراستي»، وما دون ذلك مضيعة للوقت والجهد.

بعد مرور السنوات وبعد أن أصبحت المهارات المتعددة ميزة وبوابة للعديد من الفرص أدركت حينها أن توقفي عن ممارسة الهوايات التي أثارت فضولي كانت غلطة، و أني كغيري من الناس كنتُ ضحية للأفكار التي تخلط بين العمل والهواية وتقارن بينهما رغم أنهما مختلفان في كثير من الأوجه. العديد من الناجحين في مجال معين كانت لهم عدة اهتمامات وإنجازات في مجالات أخرى أبرزهم الرسام ليوناردو دافنشي الذي عرف بنبوغه في أكثر من مجال بفضل استجابته لفضوله الشديد، وعلى الرغم من أنه برع في مجالات عديدة إلا أنه وجد (بخته الضايع) في الرسم حيث أنه نال معظم شهرته من لوحاته الشهيرة وعلى رأسهم «لوحة الموناليزا».

قد تكون عبقرية دافنشي في أغلب المجالات استثناءً لكن الاستشهاد هنا هو أنه لو لم يجرب تلك المجالات العديدة والهوايات المختلفة واكتفى بحصر نفسه في نطاق واحد لما تسنت له الفرصة لتحقيق تلك الإنجازات العظيمة.

المهارات‏‏‎‏‏‎ ‎‎وتشكيل‏‏‎ ‎الهوية

 تجنبك الانخراط في أكثر من هواية هو بمثابة تعطيل لنفسك عن الاتساع، فصاحب الاهتمامات المتعددة لديه مرونة وقدرة على اكتشاف جوانب ذاته المختلفة، وهذا ما يمكنه من تحديد المسارات الأنسب له، إضافةً إلى فوائدها التي لا حصر لها على الصحة النفسية للفرد، تقول جايمي كورتز -كاتبة وبروفسورة في علم النفس- «تخيل معي يومًا عصيبًا في المكتب، حيث تعرضتَ لانتقادات شديدة من قبل رئيسك في العمل». إن العودة إلى المنزل وتشغيل التلفاز قد يوفر لك إلهاءً قصيرًا، لكنه لا يعالج كبريائك المتضرر بشكل مباشر. الآن تخيل أنك بعد العمل تتوجه إلى دوري كرة القدم أو دروس صناعة الفخار. هذه الأنشطة هي أكثر من مجرد تشتيت الانتباه، بل تذكرك أن هذا جانب من الجوانب العديدة لمفهومك الذاتي. «فبدل من أن تعرف نفسك كموظف في القطاع – الفلاني- فقط، ستعرف عن نفسك أيضًا بالرياضي أو الفنان أو الكاتب..الخ. مما يجعل الضرر النفسي من تقصيرك في أحد جوانب هويتك أقل بكثير».

ما‏‏‎ ‎الذي‏‏‎ ‎يوقفك‏‏‎ ‎عن‏‏‎ ‎الانخراط‏‏‎ ‎في عدة‏‏‎ ‎مجالات؟

 قد يكون السبب الأول في تعطيلك عن تجربة ما استهوتها نفسك هو إيمانك بأن الشخص يجب أن يولد بهذه الموهبة وإلا لن يتمكن من تعلمها، أو رغبتك في احتراف الهواية دون أن تمر بالخطوات الطبيعية للتطور فتؤرقك فكرة أن تكون مبتدئ وتضبط همتك أي تعليقات سلبية او انتقادات حول أدائك حتى وإن كانت بناءة، أو أنك تسعى للمثالية في كل خطوة تخطوها فلا معنى لأي تقدم مالم يكن مثاليًا. وهذا ما يعرف بالعقلية الثابتة والتي يؤمن أصحابها بأن المهارات مثل بطاقات اليانصيب يحظى بها أشخاص دون غيرهم وأن أبواب الفرص والنجاح تقتصر على عمر أو مجال أو حالة مادية معينة، فإن لم تتوفر تلك السمات للأنسان في عمر مبكر فلا مجال للنمو والتطور.

المعنى‏‏‎‏‏‎ ‎‎الحقيقي‏‏‎‏‏‎‏‏‎ ‎‎‎للمثل الإنجليزي‏‏‎ ‎«جاك‏‏‎ ‎لجميع‏‏‎ ‎المهن، خبير‏‏‎ ‎في‏‏‎ ‎لا‏‏‎‏‏‎ ‎‎شيء»

على الرغم من أن هذا المثل الدارج باللغة الإنجليزية يستخدم كنظيره باللغة العربية (سبع صنايع والبخت ضايع) للسخرية من الشخص الذي يمتلك عدة اهتمامات إلا أنه في الحقيقة لم يكن يحمل معنىً سلبيًا، ففي الأصل أُستخدم لأول مرة مدحًا للكاتب المسرحي وليام شكسبير الذي كان يشارك في عدة مجالات في المسرح، فكان يساعد في تجهيز الأزياء وتصميم الديكور إضافة إلى انه يتذكر جميع نصوص الممثلين ويحاول توجيههم، فأطلق عليه هذا المثل الذي بتر مع مرور الزمن.

والذي يعني ترجمة مجازية «شخص يمارس العديد من المهن دون احترافها خير من شخص يحترف مهنة واحدة فقط».

أخيرًا، كتبتُ هذا المقال ليذكرك ألا تأخذ الحياة بجدية مفرطة وأن تجرب كل ما تاقت نفسك لتجربته دون القلق من خيبة الإخفاق، فيكفيك من الإقدام على تلك التجارب المهارات الناعمة التي ستكتسبها والعلاقات الجديدة التي ستصنعها والذكريات الخالدة التي سترويها. حرر قيد عمرك المرهون للكمال، فالكمال وجهة وهمية يُهلك الأرواح الساعية نحوه.

 
50
1
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

لماذا نلتقط الصور؟
25 آب

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 6 دقائق
لابأس! لنتألّم قليلًا..
15 نيسان

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 9 دقائق
من قتل إبداعك؟ تحليل لكتاب (من قتل الإبداع) لأندرو جرانيت
12 كانون الأول

|

الأبوة والأمومة
وقت القراءة: 5 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً