مائدةُ التَفكرِ السَنوية
انسكبَ ضوء الشمسِ على الأشياءِ ببطءٍ كما لو أنهُ يد تحطُ على كتفٍ محبوبةٍ، ما
أزالُ أستبينُ -رغم صعوبةِ ذلكَ- على صوتِ العصفورِ الذي حطَ عنوةً ثم غادرَ،
آلافُ الأصواتِ تنسكبُ دُفعةً واحدةً، وتندفعُ كالريحِ نحو عقلي، وتارةً تلو تارةٍ
تسقطُ أفكاري الثابتةَ، إن الأمرَ يبدو أشبهَ بزوبعةٍ يوميةٍ، ثقيلة، تنحشرُ فجأة وسط
كل شيء، ها قد التهمتُ لتوي وجبةَ صباحية متكاملةً من الضجيج، إن هذا العصر
ليندفعُ بشراهةٍ قصوى نحونا، هذا المُتسمُ بالسرعةِ لا يمسُ الأشياء السطحية كما
يمكنُ أن يتبدى للوهلةِ الأولى، إنه ينفذُ عميقاً في عقولنا وأجسادنا متجهاً نحو الروحِ،
لقد كُنا نشعرُ لفترةٍ طويلةٍ بأن هذا العصر مسؤولٌ عن انتقالنا نحو فجرٍ جديد مفعمٍ
بنهضةٍ انتقاليةٍ لأبناءِ جيلهِ
لكن أولسنا نحنُ أسيادُ هذا التغيرِ المُرتجى؟
وإزاءَ تعاظمِ ما يُولدُ من آثارٍ جليةٍ تطفحُ كما تطفحُ الأورامُ على الجسدِ، آثارُ ما
يتأتى من قيادةِ هذا العصرِ لكلِ ما يجبُ أن يقودهُ الفردُ بنفسهِ فإن درجاتٍ من
الانطفاء الداخلي قد بدأت تُعلنُ عن نفسها بذاتِ الوضوحِ والسرعةِ التي نلاحظها في
العالم الخارجي، إن بناء وهندسة الداخل- العقل والروح- مُهمةُ الإنسانِ الأولى،
وليسَ يُخلفهُ عَصرٌ أو موجةُ تغيرٍ زائلةٍ أو حداثةٌ مُتسارعةٌ في أداءِ مُهمتهِ.
ثمةَ رُكامٌ مرعبٌ من كل ما ينسلُ أفواجاً أفواج ويتجذرُ دونَ وعيٍ في دواخلنا، هذا
الفيضُ اللامُتناهي إلى أين يصيرُ حينَ يركنُ في أرواحنا؟
لقد اختلَ الإيقاعُ الخارجي الذي تستقبلهُ عقولنا، وغدت موسيقى العالم الخارجي نشازٌ
متغيرٌ ومُلونٌ بمقطوعاتٍ أشبه ما تكونُ بدواماتٍ لا نهائية من الأصواتِ والصورِ
والإعلاناتِ والبرامجِ، هذا العبءُ الثقيلُ بأياديهِ المتوالدةِ يلمسُ أوطاننا الجوهرية
بدواخلنا ويشكلنا باستمرار، ونتشكلُ نحنُ في مزيجهِ ونشتعلُ تارةَ، ننطفئ تارةَ
ويبدو العالمُ بحيرةَ ملونة تعومُ على سطحها عقولنا، ولكن في عُمقها ثمة أرواحٌ لم
تسقط فريسةً بعد، أن ميزتها تكمنُ في فن الانتقاء النابعِ من حصيلةِ إدراكاتها
الداخليةِ، وأنها لم تحصد بعدُ فجيعةَ الاندماج العبثي الكلي بالخارجِ ولا بالعزلةِ
الرماديةِ النائيةِ،
هَيَ تُدركُ سيادتها لأن الحياة تمنحُ السيادةَ للعارفِ، ومن لا يعرفُ
أكان سيداَ لذاتهِ أم لا ستقودهُ آلافُ الأشياءِ وفي بحيرةِ العالمِ الفسيحةِ الملونةِ يضيعُ.
أن نَنشدَ التناسقَ، أن نُصلي لاتزانِ اتصالنا بعوالمنا الخارجيةِ والداخليةِ دونَ افراطٍ
أو تفريطٍ بحقيقةِ أننا جزءٌ من هذا العالمِ وعصورهِ المُتبدلةِ أبداً، أَكُنا ننخرطُ عبثاً في
احتفالاتِ العصرِ بهرولتهِ المتناميةِ دونَ أن نشعرَ بتقرحِ أرواحنا اللاهثةِ التي
أخضعها التسارعُ دونَ أن يتسنى لها فهمُ طبيعتها التي تحتمُ عليها الاتزانَ؟
وإذا غدا ممكناً أن نصيرَ كتلكمُ الأرواحِ التي تنتقي غذائها الداخلي فنحنُ على
عتباتِ أن نهندسَ الداخلَ وفقاً لما نريدهُ، إن الخارجَ، الفوضويُ، المُتحركِ كعجلاتٍ
تهدرُ دونَ توقفٍ ليس سوى مرآةٌ لما في داخلنا، هذهِ الدِفةُ التي يجب أن يحركها
الإنسانُ، دفةَ أن يختارَ بروحهِ كُلِها ما يشُبههُ في هذا الوجودِ وما يختلفُ في أحايينَ
أخرى ليختبرَ الكمال والنقص، أن يكونَ في منأى عن كل البرمجاتِ التي تُحاكُ في
عقلهِ، كم من إرادةٍ بطوليةٍ نبتغي لأجلِ ألا ننسلخَ عن أرواحنا الخالصة؟
حين تغشي قلوبنا مسحةَ من الوحشةِ، وتمضي، ثم تعودُ أدراجها من جديدٍ، بثقلٍ
مُتزايدٍ- كما لو أنها إنذار لا ينجلي بسهولةٍ- ينجرفُ سيلٌ لا يتوقف من التساؤلاتِ
عن أصلِ مشاعر كثيرةٍ تعترينا، لا نفهمها، وتشكلُ تحدياً مُستنزفاً على أصعدةٍ
كثيرةٍ، هذه الغمامةُ الرمادية لا تزولُ إلا حينَ تعبرُ -كما تعبرُ الرياحُ التي تحمل
أنباءً مُقدسةً- ذكرى زمانٍ انصرمَ، في تلكمُ الأزمنةُ التي ولت، شيءٌ جوهريٌ،
فحين تغلقُ فترة زمنية أبوابها، تحتفظُ دائماً بميزتها التي ساهمت في استقرارٍ ما،
إننا نتذَكرُ بإخلاصٍ عميقٍ تلكمُ الفتراتِ التي نَعم البشرُ فيها- مقارنةً بما يجولُ الآنَ
من بلبلةٍ خارجيةٍ وداخليةٍ- بالصحةِ الروحيةِ والنفسيةِ والجسدية، من ذلكَ العهد، من
أنشودة الطفولةِ والذكرياتِ البعيدة، نستطيعُ أن نتذكرً موجاتِ الصفاءِ التي لم تتكدر
بعدُ بأطنانِ المؤثراتِ الخارجية القادمةِ بعبثيةٍ من كل حدبٍ وصوبٍ والتي سنحت
لنا فيها فُرصُ الزمان آنذاكَ بأن نلمسَ بواطننا وعقولنا بطريقةٍ تتلاءم مع طبيعةِ
الكيانِ الإنساني.
إنَ المَوسمَ العظيمَ يُخاطبُنا، ويدعو بخفوتِ الدُعاءِ المُوشى بصدقِ مَبعثهِ، ويَدعونا
إلى مائدةِ التَفكرِ السنوية، إلى أن نلحظَ بوعيٍ وإدراكٍ كبيرينِ جانباً مهماً من جوانبِ
مسيرتنا في هذه الحياةِ، فإلى أي مدى يمكن أن يصلَ التلوث الروحي والفكري دون
أن يستيقظَ وعيٌ جمعيٌ بضرورةِ حراسةِ عالمنا الداخلي، وإلى أينَ يأخذُ بنا هذا
التضخمُ التكنولوجي الفسيح دون أن نملكَ وعلى الدوامِ ميزةَ الانتقاءِ، واختيارِ أن لا
ننجرفَ في هاويةٍ تفرقُنا عن كل ما هو طبيعيٌ حولنا، أن لا ننكمشَ في قوقعتنا
الافتراضيةِ المُكتنزة، وأن نلمسَ روحَ الاتزان لأجلِ أن لا نفقدنا في غمرةِ التحولاتِ
المتسارعةِ.