جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025.

مجتمعٌ يسع أفراد العائلة

غرق العالم المعاصر في بحر من القوالب شديدة الفردانية التي أنتجتها الحداثة، والتي لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن تندرج ضمن حيزٍ جماعيٍّ يتشارك الحقوق والواجبات وأساليب الحياة.

وقت القراءة المتوقع: ٤ دقائق
[gpd]

تحرير يوسف المصري

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً

غرق العالم المعاصر في بحر من القوالب شديدة الفردانية التي أنتجتها الحداثة، والتي لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال أن تندرج ضمن حيزٍ جماعيٍّ يتشارك الحقوق والواجبات وأساليب الحياة. دعك من قيمٍ تتبنى شعار “الكلّ للواحد والواحد للكل” والتضحية في سبيل المجتمع والقضية، و الأواصر القريبة، لأنّ التمحور حول الفرد وإشباع حاجاته وضرب الجماعة عرض الحائط صار واقعًا لا يمكن تجنبه. أمّا العلاقات الاجتماعية -التي هي موضوع مقالنا اليوم- فقد اكتست حلة التعاقد بتعبير المفكر عبد الوهاب المسيريّ؛ الكلّ إما مفيد أو مستفيد، يجب أن يعطي حتى يأخذ، المقابلُ حاضرٌ دومًا، والقيمة بقدر النفع، ولا مجال للعاطفة في التعامل. ومع أنّ طبيعة بعض العلاقات تستلزم ذلك بالضرورة، لكنّنا نتحدث عن مجتمع صار تجسيدًا لما يمكن أن يربط بين تاجرٍ وزبون، لا أكثر. 

هذه الحداثة التي ألقت بظلالها على العالم كانت لحسن الحظ على درجات متفاوتة؛ إذ لم تطغ التعاقدية بشكلٍ كاملٍ على العلاقات مثلًا في مجتمعاتنا العربية. تمنح هذه الجزئية للمرء شيئًا من الراحة والقوة النفسية وتجعله يحسّ بأثر الانتماء والقرب والعاطفة على حياة الناس. ثمّة تراحمٌ بين أطراف هذه العلاقات، تراحمٌ لا يلوّن كلّ قولٍ أو فعلٍ أو مواجهةٍ بصبغة المادية البحتة، ولا يقيدهم بضغوطات المصالح والحسابات بل يخلق بين الأفراد مساحات فضفاضة توطّد الأواصر بينهم، تحدّد هويتهم الجماعية، تختصر المسافات بين الأنفس، وتستدعيهم في حالات الشدّة والرخاء على حدّ سواء. 

هذا التراحم انعكس على كيفية تعامل الأفراد بعضهم مع بعض، تحضرني بالمناسبة مشاهد أربعة تدلّ على القرب الذي نلمحه في صورٍ من حياتنا المجتمعية اليومية: 

المشهد الأول: 

أحثّ الخطى للحاق بالباص الذي سيُقلني إلى منزل بعد يومٍ طويل. بجانبي عجوز مسنة تجد صعوبة في الإسراع، أحاول مساعدتها في الوقت الذي يقدم علينا عامل التذاكر مسرعًا، وهو يخاطب العجوز: “هيا مّا (أمي)، تفضلي، دعيني أساعدك في الركوب”. 

كلمات مثل (ما، لميمة، الحاجة، ميمتي، بابا، الحاج) تكاد تكون عرفًا في المجتمع الذي أعيش فيه (الجزائر)، وفي الوطن العربيّ عمومًا؛ إذ يتجاوز الأفراد الرسميّات بشكل كبير. الصغير سنًّا يحترم الأكبر -في الغالب- إلى حدّ يعتبره فيه من أفراد العائلة، يناديه كما ينادي أباه وأمه.  

المشهد الثاني:  

يدخل شباب إلى محلّ رجل مسنّ لشراء غرضٍ ما، معظمهم يستهلّ طلبة بعبارة: “عمّي”. لماذا لا يقولون سيّدي، أو سيّد فلان؟ أتساءل في نفسي. 

المشهد الثالث: 

يوقف خالي سيارته فجأة في وسط الطريق وينادي على جماعة من الأطفال الصغار الذين يتشاجرون آمرًا إياهم بالتوقف. كان يصرخ بانفعال شديد كأنّ الأمر يخصّ أبناءه، ولم يغادر حتى اطمأنّ إلى تصالحهم. كان في خضمّ كل ذلك يناديهم: ولادي. 

المشهد الرابع: 

تمتزج أصوات السيارات مع نداءات الباعة الذين يروجون لسلعهم في الأسواق، ألتقط من كلّ هذا الضجيج عبارات “خويا” و”أختي” المتبادلة بين المشترين أو المارّين. ثمّة غياب شبه كامل للرسمية في النداء. أحاول بجهد أن أسمع عبارات: مادام Madame، أو مسيو Monsieur . ربما تردني واحدة أو اثنتين لكن بشكلٍ نادر. 

يعرّف البعض الحداثة بأنها: “التخلي عن العلاقات الأولية كعلاقات القرابة والانتماء للقبيلة والدين”، أجد على العكس من ذلك مفهوم الأخوة متجذرًا في مجتمعاتنا العربية كما يصور المشهد الرابع، هذا المفهوم المستوحى من الدين الذي يحثّ على الأخوة بين أفراده في الكثير من النصوص والسياقات. “إنّما المسلمون إخوة فأصلحوا بين أخويكم” (الحجرات)، و”انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” (رواه البخاري) ويتجاوز ذلك إلى حدّ التكليف بمسؤولية هذه الأخوة ومستلزماتها، كأنّما المجتمع أسرة مصغرة. 

برز تبني مفهوم الأخوة تباعًا في التراث العربيّ؛ فمعظم الأشعار التي تدرس العلاقات الاجتماعية والقيم تشير إلى هذا الآخر في المجتمع بوصفه أخًا. هذا مثالٌ لبشار بن برد، يقول فيه: (أخوك الذي إن سرّك الدهر سرّه/ وإن غبت يومًا ظلّ وهو حزين)، وهذا الشافعيّ ينظم: (أحب من الإخوان كلّ مواتي/ وكلّ غضيض الطرف عن عثراتي) والأمثلة غير ذلك كثيرة جدًّا. 

حقيقة أنّ مجتمعاتنا العربية ماتزال تسع كلّ أفراد العائلة حقيقة مريحة جدًّا، تختصر الهوة بين الداخل والخارج، تشعرنا بشيءٍ من الأمان، تغذّي أرواحنا بمفاهيم الانتماء والتراحم، وتبعدنا عن جحيم الفردانية. 

10
0

اختيارات المحررين

اشتراك
تنبيه
guest
0 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

عن النفس
يمكن القول بأننا نصاب بالحنين الاستباقي اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب تسارع رتم الحياة الذي جعلنا على يقين تام بأن اللحظة الراهنة ستمضي بسرعة خاطفة كغيرها من اللحظات

وقت القراءة المتوقع: 10 دقائق

حنين اللحظة الحالية

عن العلاقات
بعض تجارب الآخرين قد تحمل فوائد جوهرية، ولكن خذ الفائدة منها على بعد مسافة آمنة، وضع بعين الاعتبار أن طبيعة كل فرد تصنع تجربته الخاصة.

وقت القراءة المتوقع: 7 دقائق

كيف ننظر إلى تجارب الآخرين؟

عن النفس
يرى ماكس فيبر أنّ الإنسان أصبح مدموجًا بشكل تلقائي في النظام الاقتصادي لهذه الحياة، وبعد أن كانت حياته مفصولة عن وظيفته، أصبح العمل هو ما يحدد قيمته. وهو ما يظهر جليًّا في كيفية تسويق الشركات الرأسمالية للعمل على أنّه شغف المرء ومركز حياته وأولويّته.
وقت القراءة المتوقع: 8 دقائق

أزمة الشعور باللاّجدوى وانعدام القيمة

أحداث قد تناسبك

تُغذي الصمت

مَشفى

صيام عن الكلام لمدة ثلاث أيام . عقلك الذي لايهدأ ، نعدك أن يصمت تمامًا .

قراءة المزيد
تُغذي العقل والحالة الإجتماعية

يوم الفيلة

في ليلة مُتكاملة تمتد لثلاث ساعات ، نقدم للمجتمع من خلاله أعمالنا الإبداعية الكاملة ، نستضيف ضيوف مُلهمين لنقيم ليلة ثقافية – ابداعية لاتنسى في بيئة تنتمي لها وتنتمي لك.

قراءة المزيد

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً