مرحبًا …
سافرت كثيرًا، لكني لم أستمتع يومًا بغالب رحلاتي، لأنها كانت رحلات على النمط الحديث السياحي، مصنّعة وزائفة، حيث لا تنخرط في الثقافة على حقيقتها، ولا تقابل البشر الخام الذين ليسوا مضطرين ليزيّفوا تعاملاتهم معك، بل يعاملونك بطبيعتهم الصافية والخالية من المواد الحافظة.
إذ لم يتدربوا تسويقيّا للتعامل معك، بل يتصرفون على سجيّتهم بعيداً عن الاستراتيجيات التسويقية المزيفة الخالية من التواصل الحقيقي والتي لا تكشف لك الأبعاد العميقة للثقافات التي تزورها.
لتصبح تجربة السفر مجرد مسرحية لا عمق فيها ولا معرفة ولا تأمل.
إلى أن قررت يومًا أن أسافر مثل تائه شغوف بالأسئلة ومتشوّق للغوص العميق في كل ثقافة يزورها، فاستلهمت حي ابن يقظان، تلك الشخصية التي تفرعت منها الكثير من القصص الرائجة كقصة ماوكلي، وقصة طرزان الذي لطالما كنت معجبًا به ولطالما تمنيت أن أخوض تجربته.
فاستجمعت شغفي وقررت أن أسافر بروح حي بن يقظان بأقل التكاليف وأعمق الأسئلة، مسافرًا بهدف الاختلاط بالناس واكتشاف ثقافاتهم عن كثب لا كما يحكى عنها
قبل كل شيء دعنا نطرق الباب عبر سؤال مهم ثم نفتح كل الأبواب بالتأملات والأجوبة..
من هو حي بن يقظان ؟
حي بن يقظان هو شخصية خيالية لها قصة فلسفية شارك في كتابتها عدد كبير من الفلاسفة الإسلاميين، حيث نشأ حي بن يقظان في جزيرة معزولة لوحده وطافت به الأحداث والتأملات ليكتشف أصل وجوده وأصل الكون وأصل الأخلاق.
وحي بن يقظان هنا يرمز للإنسان الشغوف الفضولي، الإنسان الخام، الذي لم يتلوث بالأحكام المسبقة والنظرات النمطية والذي يُفضل أن يغوص في أعماق كل شيء بحثًا عن الأجوبة الدفينة
وأن يكتشف الأشياء بنفسه لا أن يقرأ عنها.
إنها قصة فلسفية رائعة عليك ألا تفوّت السفر فيها والتسكّع في مضامينها الفلسفية.
وها أنا حي بن يقظان الحداثي جداً، أحكي لك عن مزايا السفر بروح حي ابن يقظان، ذلك السفر بهدف الاكتشاف والتعمق وبأقل التكاليف لمخالطة الناس عن كثب والعيش في الأرض بعمق، لتنمية علاقتي بالطبيعة وتطوير علاقتي بالإنسان
حيث قررت أن أسافر لأبها، غارقًا في صوري النمطية عنها، إذ كنت مثلك أعتقد أن السعودية مجرد صحراء ولا أعرف شيئًا عن بقية مناطقها المتنوعة، إذ تشكل أبها بالنسبة لي لغزاً بارزًا على سطح أفكاري المعلبة.
حيث أني شخص حداثي مغزوّ بأفكار المستشرقين النمطية، والوثائقيات الغربية التي تصور مناطق العالم بفوقية مطلقة، وتفسّر ثقافات الآخرين من وجهة نظر متحيزة مليئة بالأفكار النمطية الزائفة
لذا قررت أن أستعين بحي ابن يقظان لأزيل أفكاري النمطية أو أؤكدها، بواسطة أن أسبح في الثقافات التي أزورها بنفسي
فامتطيت عندها الطريق الإسفلتي إلى أبها.
عبر طريق صحراوي يشعرك بأنك تسير في نهر إسفلتي يشق أعماق الصحراء.
سافرت لا أحمل معي سوى حقيبة صغيرة مملوءة بأدوات السفر وتشبهني في امتلائها..
إذ كنت مملوءاً أيضاً بشغف الاكتشاف والتأمل والغوص في الثقافات.
ومن خلال سفري اليقظاني الحيّ صادفت في الطريق الصحراوي بائع شاي يبدو فقيرًا جدًا، فتوقفت عنده لتجربة الشاي المزعوم، وأثناء انتظاري له وهو يصنع الشاي، كان يتحدث كثيرًا ويسأل كثيرًا وكأنه يعرفني منذ سنوات، وعندما وصلنا لمرحلة دفع الحساب قرر فجأة ألا يأخذ شيئًا كونه استلطف شخصيتي الهزلية وضحك معي كثيرًا
ثم ناضل وجاهد كي يدعوني للعشاء، ولم أستغرب هذا السلوك فقد سمعت به كثيرًا ولطالما رفضت دعوات شبيهة في السعودية إما لكوني مستعجل في طريقي أو لكوني لم آخذ تلك الدعوات بجدية إذ لطالما اعتبرتها سلوكًا اجتماعيًا يهدف لتلطيف الجو فقط
لكني قررت هذه المرة أن أتبعه لأستكشف غاياته الدفينة فلا شخص بلا غايات، هل كانت أهدافه مادية؟ هل أراد أن يصنع معي علاقة مهنية؟ أم يريد أن يطلب مني المال في نهاية الأمر؟ تلك أشياء لا تحدث هنا لكني كنت غارقًا في تصوراتي التشاؤمية عن الناس عندما أسافر، فكل المناطق التي زرتها سابقًا أودعت بداخلي الشكوك حول تصرفات الآخرين، إذ كل المناطق السياحية في العالم تهدف في النهاية لشفط أموالك أو سحب خدمات مادية منك، أو أنه يريد في النهاية أن يغدر بك ويسرق ممتلكاتك البسيطة كما حدث لي سابقًا في المكسيك، حيث دعاني أحد الأشخاص ليريني فندقًا رائعًا على حد قوله، ثم أشهر سلاحه في منتصف الطريق وجردني من كل ممتلكاتي، إذ كانت تجربة كارثية زرعت ندبة مؤذية في ذاكرتي
ما علينا..
تابعت الرجل الصحراوي الغريب إلى منزله، وأدخلني كمن يستقبل وزير خارجية لدولة ما، وأغرقني بالحفاوة، إلى أن وصلنا لموعد العشاء فأكرمني بكبسة رائعة من صنع زوجته وتابعها بلبن لذيذ من إبداع أغنامه.
وانتهى الأمر بأنني انتظرت منه أن يطلب مني أي شيء، ما المقابل المادي من كل ذلك؟ والعجيب أنه لم يطلب شيئًا أبدًا بل غضب من محاولاتي الغبية لأقدم له مقابًلا لذلك.
مضيت في رحلتي متسائلًا حول هذا السلوك المناقض لكل الفلسفات النفعية والاقتصادية، إذ كان طريقًا أغرقني بالأسئلة حول سلوك الكرم في السعودية.
ومن روح حي ابن يقظان التساؤلية استكشفت مفاهيمًا أريد أن أسردها لك هنا بعد أن عشتها كما يعيشها أهلها وكمن يكتشف ذاته لأول مرة
فقد تأملت سلوك الكرم ابتداء من الطفل الصغير وانتهاء بالشيخ الكبير مروراً بكل أصناف المجتمع الذين كان الكرم فيهم سلوكًا تلقائيًا جداً ويبدو في بعض الأحيان سلوكاً قهريًا يقومون به بشكل لا واعٍ إذ صار جزءًا أصيلًا من منظومتهم السلوكية و الفكرية.
تأملات في الكرم :
يبدو أن الظروف المناخية هنا بلورت وأسست لسلوك الكرم وجعلته قانونًا يتصرف وفقًا إليه كل من عاش هناك، حتى أن أي شخص من خارج بيئة الصحراء لو عاش فيها قليلًا لوجد أنه ينهمر كرمًا بشكل تلقائي، فالكرم هنا باعتباره سبيلًا للبقاء وسلوكًا تكيفياً ساهم في بقاء المجتمع وإنسانه.
فالبيئة القاسية ومحدودية الموارد قديمًا حتمت على الإنسان السعودي القديم أن يكون كريمًا ليبقى هو كفرد ويبقى المجتمع كمنظومة متجاوزًا كل الظروف البيئية القاسية
إذ يبرز هنا مفهوم اجتماعي اسمه “الرأسمال الاجتماعي” Social Capital الذي بواسطته ينمي الفرد ثروته الاجتماعية ويساهم أيضًا في نمو المجتمع وبقائه فقد كان من يعطي ويضحي للاخرين هناك يكون له السبق في حصد سمعة طيبة، وبهذا تتشكل قيم الكرم.
فالرأسمال الاجتماعي سهل الحمل والنقل عكس الدنانير والذهب، وعندما يعطي الإنسان ويكرم الضيوف يزداد رصيده الاجتماعي، وحتمًا سيكون لهذا الرصيد منافذ لصرفه كأن يتوسط لحل نزاع بين متخاصمين يقدرون سمعته ودوره الإجتماعي.
أو أن يهرع الناس لمساعدته في الظروف الطارئة لكونه قد دفع قيمة هذه المساعدة سابقًا بسلوكياته الكريمة التي ملأ بها رصيده الاجتماعي.
فالكرم يقوم بدور اقتصادي لمساعدة المجتمع قديمًا في البقاء وذلك بإعادة توزيع الموارد ومشاركة الآخرين.
ولم يكن الكرم حكرًا على أبناء الصحراء بل شمل جميع فئات المجتمع في المملكة، وقد صار سلوكًا يوميًا الآن حتى بعد انتفاء مبرراته التاريخية “كقلة الموارد والفقر” فالفقر يكاد يختفي هنا الآن و الموارد تكاد تفيض، بعكس الوضع التاريخي القديم، ورغم ذلك لا يزال الكرم مرتبطًا ارتباطاً وثيقا بالسلوك التلقائي للفرد الحديث هنا، فصار الفرد يقوم به بشكل واعٍ أحيانًا، ولا واعٍ أحيانًا أخرى.
فهو يتصرف مع الناس بالكرم لا طمعًا في رضاهم ولا استهدافًا لأموالهم، بل يقوم به من تلقاء نفسه لارتباطه الوثيق بتاريخه وتسلسله الثقافي.
فسلوك الكرم هنا مع الغرباء والسياح لا أهداف تسويقية له، ولا غايات مادية أو تجارية منه، بل إنه سلوك يومي تلقائي يحدث وفقًا لقاعدة “افعله مع من عرفت ومن لم تعرف”
تأملات في الزي – أبها تهديني سر تنوع الأزياء في السعودية :
وصلت إلى أبها وانعطفتٌ بالطريق إلى أول محطة وقود صادفتني، فشاهدت رجلًا غريبًا علي إذ فجّر بأزيائه قنبلة في دماغي حطمت أحكامي النمطية الخاطئة، إذ لم يكن يرتدي ثوبًا أبيضًا وشماغًا كما هي العادة، بل كان يرتدي وزرة ملوّنة وقميصًا أخضرًا بينما يزخرف رأسه بريحانة برتقالية اللون.
فانطلق حي بن يقظان متسائلًا في رأسي عن سر تنوع الأزياء في السعودية، محاوًلا تفكيك نظرتي النمطية التي تعتقد أن الثوب الأبيض هو الزي الوحيد هناك.
ولأن المناخ والتضاريس هي الأم الشرعية لكل الثقافات، ذهبت أفكاري نحو الإجابات التي يمكن أن يخبرني بها المناخ وتشرحها لي التضاريس عن سر تنوع الأزياء هنا.
فجلست متأملًا مغمضًا عينيّ تحت شجرة العرعر السعودية بدلًا من شجرة التين البوذية.. منتظرًا الإلهام العميق والنور الساطع الذي سيضيء عقلي ويمحو ظلام الأفكار النمطية منه
فإذا بالمناخ يهمس في أذني بصوت هادئ يشبه صوت شيخ قديم يقول لي : بأن المناطق شديدة الحرارة كالصحراء يغلب على لبس أهلها قديمًا اللون الأبيض والقماش الثقيل، فالبياض يأتي لغاية بسيطة هي أن يكون طاردًا للحرارة وعاكسًا لها، والثقل يأتي كحارس للجسد من الجفاف، إذ أنه إذا كان الجسد مكشوفًا سيؤدي ذلك لتبخر العرق ثم الجفاف فضربة الشمس في نهاية المطاف، لذلك جاءت العمامة و اللثمة لتغطي الرأس والوجه لحماية الجسد من حرارة الشمس ولحفظه من الجفاف.
ثم اختفى صوته لثوانٍ قليلة وكأنه يبحث في أوراقه ثم عاد ليقول : ومن جانب آخر ستشاهد يا بني أن المناطق الساحلية قديمًا تغلب عليها الملابس الفضفاضة التي تتمثل عادة في الوزرة الخفيفة التي تسمى “الفوطة” وذلك بسبب ارتفاع درجات الرطوبة هناك إذ أن تلك المناطق لا يتناسب معها الزي الصحراوي.
وعلى النقيض من ذلك يا بني الحي اليقظاني ستجد بأن المناطق المرتفعة في المنطقة الجنوبية ومنها “أبها” على سبيل المثال.. تغلب عليها الوزرة الثقيلة التي رأيتها قبل قليل .. بسبب درجات الحرارة المنخفضة، وأما الريحانة الجميلة التي تزخرف رؤوس الناس هناك فدورها هو أن تعطر أنفاسهم بروائح عطرية تذكرهم دائمًا بأنهم في المكان الذي لطالما أحبوا رائحته، فالريحانة هي أشبه بعطر باريسي مذهل يحمله الفرد هنا بالقرب من أنفه، كي يتنفس جيدًا.
خاتمة :
هذه تأملاتي التي أهداني إياها السفر بروح حي بن يقظان، ذلك السفر الذي لا يهدف سوى للاكتشاف وعيش الثقافات واستنباط المعرفة والقيمة منها.
ولا يزال بإمكانك أنت أيضًا أن تكون حي بن يقظان الذي يسافر حول العالم ليتذوق متعة اكتشاف الثقافات الخام، تلك الثقافات الأصيلة التي لم تتلوث ببقع الحداثة ولم تغيرها عوامل التعرية الاستعمارية، فأنت بهذه الطريقة كمن يركب آلة الزمن ليشاهد ثقافات مستمرة منذ آلاف السنين
سفرُ بروح حي ابن يقظان يهديك لذة المعرفة عن كثب لتعيش التجارب الجديدة المتوهجة والأصيلة المرتبطة بتاريخٍ طويل لا زال بارزًا في السلوك والعمران
سافر أنت أيضًا بروح حي ابن يقظان وقل لنا ما الذي استكشفته من قيم وثقافات.