الحوار همزة وصل
في مقالات سابقة تحدثنا عن العلاقة واستدامتها في عصر سائل، لا شيء فيه مستقر و ثابت و عن أثر المبادرة بالعطاء إلى جانب موازنة التوقعات في صنع علاقة مستدامة تصمد أمام متغيرات عصر السرعة و السيولة. و ما بين مبادرات و عقلنة التوقعات يأتي الحوار ليكمل مثلثًا تستند عليه العلاقة و تستديم، فالحب قد يكفي للمبادرة و بعض من الحكمة قد تبرر التصرفات التي لا تتفق مع مشاعر الحب التي تجمعنا بالآخر لكن الحوار يبدو ضروريًا لإيضاح أسباب غياب المبادرة تارة و تفسير معاني التصرفات و الكلمات التي تزعجنا تارة أخرى والتي إن تركت لأهوائنا و أمزجتنا فقد يتسلل الشك أن الآخر مهمل عن سابق إصرار و ترصد.
إن فقدان الحوار يعني فقدان السياق، فكما أن الكلمة تكتسب مفردات مختلفة بمجرد تغيّر مواقعها في النص أو بمجرد تغيّر الكلمات المتواجدة قبلها وبعدها، فالتصرفات هي الأخرى تجد تبريراتها و معانيها من الظروف المحيطة بها، فالحالة المرضية و الحالة المزاجية و ضغوط العمل و الخوف من مشكلة مرتقبة جميعها ذات تأثير جلي على مجرى المحادثات و التفاعل و قد تدفع الإنسان إلى قرارات غير منطقية و لا تتفق مع مشاعر حبه للآخر و بمجرد وضوحها للطرف الآخر تزيد من احتمالية تقبّل الآخر لأخطائنا أو هفواتنا متى ما علم ما ورائها من أسباب.
ينبغي أن تكون المكاشفة بين طرفي العلاقة خاصة في العلاقات العاطفية على مستويات أعلى من اللحظة الراهنة فحسب، إنما يجب أن تمتد إلى ما مضى وما هو سابق للعلاقة الحالية فمعرفة خلفية الآخر من حيث نقاط الضعف يساعدنا على تجنب إيذاءه فقد لا تكون الكلمة التي نتفوّه بها ذات ثقل كبير على أرواحنا إنما على الآخر فتحدث جرحًا قد لا يبرأ لا لسوء في الكلمة ولا لفداحة التصرّف إنما لما يرتبط بالكلمة أو التصرّف من معنى في ذهن الآخر قياسًا على البيئة التي نشأ فيها و الظروف التي مر بها و هنا تأتي أهمية الحوار في إعداد ما يشبه الدليل للتعامل مع الآخر و بتفسير آخر فقد يكون الحوار طريقة لجعلنا أكثر نضجًا حيث نبدأ برؤية الأشياء من زاوية الآخر فنبدأ في تحديث ما يبدو صوابًا أو خطأ بشكل بديهي.
يأتي السؤال دائمًا عندما يحضر الحديث عن الحوار وأهميته وضرورته المحلّة: ماذا نترك للآخر من جهد إن كنّا سنقول له ما يفعل و ما لا يفعل، فإن كان محبًا فلما لا يتعلّم ما بنا و ما هو خافٍ وراء تصرفاتنا بنفسه و لما لا يؤخذ كل ما نفعله على أحسن المحامل؟
الحقيقة أن الحوار بحد ذاته جهد جهيد و بمجرد أن المرء استطاع هزيمة ذاته و أناه ليقف أمام طرف العلاقة الآخر ليوضح له ما آذاه و ما كان يتوقعه منه فإنه بذلك اعترف ضمنيًا بسلطة هذا الآخر عليه و على مشاعره و قدرته على جعله يشعر بشعور أفضل أو أسوأ. هذا الانعكاس كفيل بأن يجعل المرء متجنبًا للحوار لما فيه من ثقل فيهرب من هذا الاعتراف فيعتمد ما وصل إليه من أذى على أنه حقيقة، فلا يطلب تفسيرًا لتلك الكلمة الجارحة حسب تفسيره و يكتفي بالاستياء الذي شعر به بعد أن أهمل الآخر موعدًا مهمًا له أو أغفل تفاصيل تلامس روحه رغم احتمالية وجود ما يبرر هذه الكلمة و ذلك الغياب.
سيولة الحوار في عصر الحداثة
إن شعور الاستحقاق المتزايد الذي بدا منتشرًا بين أفراد الأجيال الحديثة نظرًا لما يتم ترويجه و تسويقه ما بين كتب تطوير الذات و ما يقدمه المهتمون بالطاقة يجعل من الحوار ثقلًا لا يطيقه أحد فيكون الاستمرار على الخطأ أهون بكثير من أن يشعر المرء بأنه تحت وطأة أحدهم و قراره بأنه يقصد تلك الكلمة أم لا يقصدها و أنه تعمد الغياب أم أن ظرفًا قد غيّبه. و هذا في الحقيقة ما يجعل العلاقات أقل صلابة في عصر السيولة فالعطاء و الإيثار لا يتم تسويقها بشكل جيّد لأنها عدوٌ للمرء و آكلة لروحه و التوقعات من ناحية أخرى أصبحت في أقل مستوياتها فلا أحد يريد أن يعتمد على الآخر بشكل من الأشكال و تأتي الأنا المتضخمة لتقمع أي رغبة في الحوار لاستيضاح معنى كلمة جارحة أو تصرّف مفاجئ و تأخذنا الرومانسية إلى توقعات و افتراضات بأن الآخر قادر على فهمنا دون أن نتفوّه بكلمة واحدة، و نفترض أن تقصيره في إرضائنا هو تجاهل متعمد لا جهل باحتياجنا من الأساس .