بواعث الخيال والواقع، الرابط بين الخيال والسعادة.
أستطيع أن أقول كل ما حلمت به كشخص في مطلع العشرين قد تحقق لي في مطلع الثلاثين، فزتُ بسيارة، نعم أنا الشخص الوحيد الذي تعرفونه وقد فاز بسيارة من مسابقة في تويتر، وأعمل في جهة الأكبر في مجالها ولطالما حلمت بالانضمام إليها، وأحقق دخلا جيدا لمستواي المعيشي،
وفقًا لمعايير هذا العصر ؛ فأنا أمتلك كل شيء، أتُراني سعيدة؟
يمتلكُ الإنسانُ قدرة عظيمة على التكيّفِ النفسي والتأقلمِ في أي محيط يلزمه للنجاةِ والاستمرارية، في سجنٍ، في مهجرٍ، في أسرة جديدة، في بيئة عمل مختلفة، في مدينة غريبة ومع لغة أعجمية، في ظروف حياته الجديدة ومع وزنه وهيئته المتغيرة على مر السنين، مع كل ذلك؛ إلا أن الإنسان يبقى جزءًا صغيرا فيه حرًا طليقا لا يقبل التأقلم أو الرضا أو القناعة؛ فالخيالُ البشري معجزة من معجزات البشر اللامكانية.
تعوّدَ الإنسانُ أن يختزل الخيال كميزةٍ في مرحلة الطفولة وأن يتجاهلها أو ينكرها في المراحل اللاحقة، ويعود ذلك إلى رغبته في إثبات قدرته على الواقعية والتحكم بمسار حياته بدلا من اللجوء للوهم/الخيال، أو قد ينحاز إلى أن الخيال متطلب في شئون الأدب والنتاج الثقافي والقصصي؛ لعدم إيمانه بفاعلية الخيال في تحقيق وبناء واقع عملي، بينما يعتبر الكثير من العلماء أن الخيال أداة من أدوات التأقلم مع المحيط والواقع فإنني أخالفهم الرأي في ذلك، فأنا أرى أن الخيال هو المخرج من أي واقع، هو الدليل إلى واقع جديد، وهذا الواقع الجديد يحتاج الخيال ليقفز به إلى واقع أجد.
جُبل البشر على عدم الرضا بالواقع مهما كان هذا الواقع مشابهًا للحلم السابق، وطبيعتنا هذه ولّدت فينا كمية من المشاعر المتضاربة التي تجعلنا في حالة قلق مستمر وبحث مضني عن معنى الحياة ،أو عن هدف جديد للتحقيق، وهي نفسها الدافع للإنجاز للحركة و للمضي قدما، أما أداة هذه الجبلة فهي الخيال وحده!
التخيل عملية فكرية، تنعكس بشكل شعوري على هيئة حنين لغير الموجود سواء كان نمط حياة، للمستقبل، أو حتى لأشخاص غير موجودين، لذلك نرى الكثير من الشعراء تدور أبياتهم حول الحنين للوطن المفقود، للحب المجرد للحبيبة، للخلان، للطبيعة، للمجهول…إلخ، جُبل الإنسان على الحنين الدائم لغير الموجود وهذا من بواعث الخيال.
إن إدراكك للباعث والمبعوث إنما يمنحك القدرة على الرضا أخيرًا والقناعة والنفاذ بجلدك من دائرة البحث عن معنى، لا أزعم أنني أدركت المعنى -وأخاف أن أزعم ذلك- وإنما هي عملية مستمرة في تفعيل الخيال واطلاقه والاستسلام للحنين لغير الموجود والوعي بذلك، بالرغم من أن الخيال يسلبك القناعة إلا أن وعيك بشعور الحنين الناتج عن الخيال يؤدي بك إلى التسليم ويمنحك اليد العليا عليه.
قد يلجأ بعض المتمرسين في الخيال من البالغين إلى اختلاق صديق وهمي كما يفعل الانسان في الطفولة، يشاركه التفاصيل اليومية أو يحميه من خطر تخيلي، أو إلى اختلاق جمهور وهمي يلقي عليهم الخطب أو يؤدبهم ويعنفهم، وكذلك إلى تخيل المواقف الواقعية وإعادة صياغتها بما يصب في صالحه من تغيير الردود أو المواقف، ولكل بحر من بحور الخيال غير الصحي دراسات علمية ونفسية تمت على مر السنين ليس هذا مجالها وإنما أود الإشارة إلى أن الخيال غير الواعي قد يكون مؤشرا للإختلال النفسي أو العقلي أحيانا، لذلك الوعي بالخيال وقدرته على صياغة الشعور والمستقبل هو الطريق لخيال صحي خالي من الانحرافات غير المرغوبة.
أخيرا التكيّف النفسي هي ميزة يلجأ لها الإنسان وقت الشعور بخطر يتربص ما يألفه، وبعد التكيف والثبات والاستقرار يؤزه الحنين دوما للمجهول، فيأخذه في طريق أخرى ليبدأ دورة جديدة من التكيف النفسي ومن ثم الحنين وهكذا، وهذا ما يحدث معي..
السعادة حدث طارئ طُلب منه أن يستدام، والتغيير حدث مستمر طُلب منه أن يطرأ، ومن يطلب عكس ذلك فهو ظالم لنفسه.
من الجيد أن نولي الامتنان بضعة دقائق يوميا لنشكر النعم..
ولكني آمل أن نولي الخيال أيضا بضعة دقائق عن عمد ووعي بأنه خيال مطلق، فلننظر إلى أين تبحر بنا عقولنا، ما هي أمنياتنا الدفينة، ماهي رغباتنا المستقبلية، لنستطيع أن نصنع في كل مرة واقع أجمل و لنفهم ذواتنا أكثر.
وكما يقول اينشتاين:
بورتريه لإلبيلبرت انشتاين لـ JOSEF SCHARL
“الخيال أهم بكثير من المعرفة، المعرفة محدودة بحدود الفهم والعلم، بينما الخيال يشمل كل ما يمكن أن يكون وما يمكن أن نفهم في العالم بأسره.”