جميع الحقوق محفوظة لقوثاما 2025

الطعام بوصفه جسرًا؛ يبتدي بالجسد واصلًا للذوات
12 أيار
العلاقات

الطعام بوصفه جسرًا؛ يبتدي بالجسد واصلًا للذوات

12 أيار

|

العلاقات

الطعام بوصفه جسرًا؛ يبتدي بالجسد واصلًا للذوات

بينما كنت أتبادل أطراف الأحاديث أنا وأختي في أحد الصباحات، التفتت إلى ابنتها في حجرها وهي ترقّص رأسها يمنة ويسرة استمتاعا بطعم ما أعدته لها؛ أغراها المشهد لتقول مبتسمة اقتراحها بأن تكون فكرة مقالي القادم عن ارتباط إطعام الطعام بالعلاقات الاجتماعية كالعلاقة بين الأم وابنتها، وقد تفاجأت لحظتها أني تدفقت أثرثر بشلال من التفاصيل عن مصادفة قراءتي قريبا لقصتي الأم إيلدا والأم تينا المتناقضتين.
بدءًا بما هو أعم نحو ما هو أخص؛ لا شك أن لإطعام الطعام أبعاده المتعدية مجرد إشباع الجوع في كل الثقافات منذ القدم، وفي موروثنا الكثير مما يؤكد تأثيرها الممتد إلى ما هو اجتماعي ونفسي وإلى ما هو أعمق وأبعد من ذلك:

كما في النص القرآني عن قصة مائدة بني إسرائيل:

{ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا}

{نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}

أو عن المؤاكلة الأشخاص بدافع استطابة الطعام، كقولهم:

“مما يزيد في طيب الطعام مؤاكلة الكريم الودود”

وقول الأعرابي:

وإن طعاما ضم كفي وكفها       لعمرك عندي في الحياةِ مباركُ

أوعن الحفاظ على صورة اجتماعية معينة، كقولهم: “موائد الملوك للشرف لا للشبع”

وقول الشاعر:

إذا ما عملتِ الزاد فالتمسي له    أكيلًا فإني غير آكلِه وحدي

بعيدًا قصيا أو قريبا فإنني         أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي

وإذا كان تأثير الطعام والمؤاكلة ظاهرًا وجليًّا في السياقات السابقة فهو من باب أولى، أظهر وأجلى تأثيرًا في أكثر العلاقات الإنسانية قربا وأطولها زمنا، كالأبوة والبنوة.
إن الطعام بوصفه وسيلة لإشباع الجوع، هذا الاحتياج الأولي للأطفال؛ يمكن أن يمثل جميع الاحتياجات وعلى أساسه تقوم عليه العلاقة بين الأبناء والأمهات. وبإطعام الأم صغارها توحي إليهم ضمنًا بتقديم جميع أشكال الرعاية، مما يعني أن تناول الأطفال للطعام يشير إلى قبولهم لرعاية الأم لهم.
بل ويتجلى هذا المفهوم حين يتحدث الأطفال عن الطعام أو يقصون قصصا حوله، حيث يمكن أن يمثل إطعام الطعام كل أفعال الرعاية، ويمكن أن يرمز الجوع إلى كل الاحتياجات، ويمكن أن يكون الأكل استعارة مجازية لإشباع الرغبات.
تتغير علاقة إطعام الطعام تدريجيا مع تقدم الصغار نحو نضجهم، وتتنامى مقدرتهم على إشباعهم احتياجاتهم بأنفسهم، بل وقد تمتد إلى إشباع رغبات والديهم، وفي حال رفض أحد الوالدين أو الطفل أو الطفلة المشاركة مع بعضهما البعض في الطعام، أو رُفض الاعتراف بطهي الآخر، فإن هذا الرفض يشير إلى وجود مشكلات في العلاقة بين الوالدين والأبناء.

إن الرضاعة باعتبارها علاقة الإطعام الأولى، تمثل الجسر الذي ينتقل منه الرضع إلى ذواتهم من خلال أمهاتهم؛ فعلاقة كهذه تكون الوسيط إلى النمو النفسي-العاطفي، وحسبما تطرح الدراسات، يمكن أن نفكك ذلك الجسر الانتقالي نحو نمو الذات إلى أجزائه التالية:

  1. يحب الرضيع في البداية تجربة الإرضاع “حب نرجسي” ويركز على إرضاء رغبات الذات فقط.
  2. يصل الرضيع إلى “حب الطعام الذي هو مصدر اللذة” الحليب الذي ترضعه أمه أو يرضعه من زجاجة.
  3. ثم يحب أخيرًا “من تقدم له الطعام: الأم أو بديلتها” وتسمى هذه المرحلة “حب الموضوع”.

وتكون المرحلة الأخيرة هي الضفة التي يتعرف فيها الطفل على انفصاله عن الأم وقدرته على حبها باعتبارها شخصًا منفصلًا عن ذاته، وهذا الانفصال يعتبر انتقالا عبر قناة الإطعام نحو النمو النفسي الذي يمتد عمرًا يُعمر بمختلَف السلوكيات بين الطرفين.

ولفهم أوضح لتأثير مجمل السلوكيات في الإطعام على الأبناء، أستعرض خلاصة قصة لعلاقتين تناولتهما دراسة في الطعام والحميمية والاستقلال: علاقتي إيلدا وتينا بابنتيهما وكيف كان تأثير الطعام على حياتهما. ومثلما سنرى، فقد كانت العلاقتان على طرفي نقيض؛ حيث نرى مرةً الطعام بوصفه رابطا بين الأم إيلدا وابنتها جيليولا، والطعام باعتباره أداةً لتمزيق الروابط بين الأم تينا وابنتها ساندرا:

إيلدا وجيليولا

امتد رباط الطعام طوال العمر بين إيلدا وجيليولا إلى درجة أنه كان رباطًا مطاطيا يعيد جيليولا من حين إلى آخر فتسافر مع أسرتها إلى بيت الجدة من أجل علاقة الإطعام الإيجابية التي بنتها أمها معها.
ولقد كانت البداية لهذه العلاقة المتينة قبل أن يبدأ عدّاد عمر جيليولا؛ فمنذ أن شعرت الأم إيلدا ببوادر الحمل حتى بدأت في الاتصال بطفلتها من خلال علاقة إطعام الطعام؛ إذ ربطت بين الجوع الشديد الذي كانت تشعر به أثناء حملها وبين شهية ابنتها المفتوحة، وتنبأت ممّا تشتهيه أثناء حملها بالأطعمة التي ستكون فيما بعد مفضلة لابنتها!
كانت إيلدا تقدم الطعام لابنتها، وابنتها بدورها تتناول باحتفاء الطعام الذي تقدمه لها أمها، وفيما بعد، كان تقدير الأم إيلدا لطهي جيليولا علامة على نمو علاقتهما نحو تبادل العطاء والأخذ للطعام، وهذا كان علامة امتداد أطول للعلاقة المتبادلة بينهما منذ اعتماد الطفولة وحتى استقلال الشباب.

تينا وساندرا

 على العكس مما كانت عليه العلاقة السابقة، كانت العلاقة بين تينا وابنتها ساندرا تكشف عن قدر أقل من الرعاية وعن تباعدٍ عاطفي بينها وبين أمها. لقد كانت والدة ساندرا ووالدها خانقين لها، ولم تصفهما بأنهما يرعيانها، بل كانت تجربة ساندرا صارمة نسمع في زوايا سردها صدى ذاكرتها عن أوقات الوجبات المؤلمة وعدم رغبتها على الأكل وعدم رغبتها فيه، كانت الضغوط والمشكلات العاطفية التي تواجهها في عائلتها تتمظهر في مشكلاتها مع تناول الطعام.
لقد كانت أم ساندرا تشعر أن ابنتها تهدد مكانتها في حال تعلمت أن تطهو طهوًا متقنا؛ فقد كانت مكانة الأم في المنزل تعتمد على طهيها، حيث أن سبب اختيار أبيها لأمها زوجةً هو إتقانها الطهو، ولذا كانت الأم تحتاج إلى محاولة منع ساندرا من أن تجاريها في طهو الطعام، وتخاف من استقلالها. لذا بدت ثقة ساندرا بقدراتها مهزوزة، وحين تزوجت لم تكن تعرف كيف تطهو، ولم تكن تعرف أيضا أي شيء من أعمال البيت، وقد احتاجت وقتا لتُرسي ثقتها باقتدارها وجدارتها في أن تكون ربة البيت الجديد.

إن  تأكيد الذات والاعتراف بالآخر هو اللبنة الأساسية التي تبنى عليها العلاقات عموما بما في ذلك علاقة تبادل العطاء والأخذ للطعام، ينتقل فيها الأحوج نحو العطاء والمعطي نحو الاحتياج، مرورًا بنقطة اتزان يتسم فيها العطاء بالندية والخبرة، في علاقة ناضجة تتسم بالاستقلالية، لتلبي الارتباط العاطفي الذي يقدمه إطعام الطعام وأكله في جوّ أسريٍّ حميم.

مراجع:
  • الطعام بوصفه وسيلة للربط والتفكيك: مناقشة الحميمية والاستقلال بالرأي في العائلة الفلورنسية. كارول كونيهان. ترجمة سهام عبدالسلام.

  • خيالات الطعام: النوع (من رجل أو امرأة) ورمزية الطعام في القصص التي يؤلفها الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة. كارول كونيهان. ترجمة سهام عبدالسلام.

  • البلاغة والإيجاز. الثعالبي.

  • البصائر والذخائر. التوحيدي.

3
0
اشتراك
تنبيه
guest

1 تعليق
الأقدم
الأحدث
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات

مقالات مُقترحة

الوقت المناسب خدعة
1 أيلول

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 4 دقائق
رجل ضد نحلة
27 آب

|

النفس والعاطفة
وقت القراءة: 3 دقائق
لماذا لا نفهم الحب؟
16 نيسان

|

العلاقات
وقت القراءة: 7 دقائق

عازف الموسيقى: %s

اشترك في نشرتنا البريدية

نشرة تصدر من قوثاما لتعرف عنا أكثر، عما نخطط له، وعما يدور في وجداننا.

كل أربعاء عند الساعة ٨:٠٠ مساءً