لم يكن يوم استثنائيًا، كانت الساعات تمضي بطريقة عاديّة. ذهبت إلى المقهى المعتاد، طلبت قهوتي المعتادة،وجلست على نفس الطاولة التي أختارها غالبًا. كانت الوجوه التي تمرّ من أمامي هي الوجوه نفسها تقريبًا، كنت أعرف معظم روّاد المقهى. خالد الذي جمعني به كتاب، وعبدالله الذي بادر في معرفتي بقلب كبير. وأحمد الذي عرفت فيما بعد أنّ لديه قدرة فريدة على الإقناع، وغيرهم الكثير الذين يحفظون ملامحي أكثر من اسمي وأحفظ ملامحهم أكثر من أسمائهم التي لا أتذكرها معظم الأحيان في نفس اللحظة. كان كلّ شيء يسير بشكل طبيعي، إلى أن دخل رجل يُمسك برجل آخر مبتسم. لم يخطر على بالي سوى أنّه أعمى وهذا استنتاج طبيعي. لكن أن يبتسم بهذه الطريقة الجميلة في وجود الكثير من المبصرين الجاديّن جدًا. هذا ما لفت انتباهي.
ابتسامة حقيقية
مرّت فترة طويلة لم أر فيها ابتسامة حقيقية جدًّا. ابتسامة ناتجة عن شعور حقيقي بالرضى، من خلال ملامح مليئة بالقبول. كانت الابتسامة تعكس هذا الشعور، والشعور كان يعكس الإيمان، وهذا الإيمان كان يرمّم كلّ شيء، بدءًا من داخله؛ روحه، قلبه، وملامحه، إلى كلّ الأماكن التي يدخلها في الخارج، والأشخاص الذي يقابلهم، إلى الحياة التي تعتني به بطريقتها ويعتني بها هو بطريقته. طلب قهوته بصوت جهوري، وواثق: «كابتشينو، خالي من اللاكتوز» (cappuccino with Lactose free)، بينما طلب الآخر الذي يمسك بيده، قهوة اليوم. ولو كنتَ مكاني ستشعر من أول وهلة أن بين هذا الثنائي كان يحدث تتناغم عظيم. فحينما دار نقاش قصير على الطاولة بجانبي مباشرة، وهو المكان الذي اختاروا الجلوس فيه في النهاية، كان يحكي الأول ويصمت الآخر، وحينما يحكي الأخير كان يصمت الأول بانتباه، وكلاهما ينظر إلى بعضهم البعض وكأنهما مُبصرين على حدٍّ سواء. وهم كذلك بالفعل، لكن هذا بإيمانه أكثر، والثاني بعينيه أكثر.
سعة في الشعور
تساءلت في نفسي، ما الذي يحدث هنا؟ كيف استطاع رجل كفيف العينين أن يجعلني أُبصر بقلبي؟ كيف وصل إلى هذه المرحلة من الانسجام؟ ما الرسالة التي يحاول إيصالها إلي؟ وهل بالإمكان أن يفقد الإنسان بصره ويبتسم بهذه الراحة؟ وإن كان كذلك، إلى ماذا يبتسم بالضبط؟ ما الذي يراه هذا الرجل وهو كفيف، ولا نراه ونحن نُبصر؟ تأملّت كل تلك الأسئلة، وبالرغم من أن كل شيء حدث سريعًا إلاّ أني اعتقدت بطريقةٍ ما أنّ سرّ ابتسامته ربما يكمن في عدم رؤيته للواقع كما هو، بل كما يراه هو من الداخل. ربما نجا هذا اللطيف من رؤية أشياء لا ينبغي لأحد رؤيتها، وكان صاحب الحظ الكبير الذي لم يُشّوش عقله منظر حَرَب، مشهد بكاء، أو ملامح متعبة.
ربما عرف بطريقةٍ ما كيف يحوّل هذا الألم إلى أمل. والظروف إلى نِعَم، وبدلاً أن يزعجه اللاشيء أصبح يُحبه أكثر. ليس ذلك فقط، قد تكون سبب ابتسامته، شعوره بالاتساع الكبير في داخله في الوقت الذي قد نكون فيه نحن المبصرين محدودين جدًا بالتعوّد على رؤية نفس الأشياء، والأماكن، والمدن، والملامح. أو ربما بذهاب بصره منه، أتت الحياة إليه. وما زاده تبجيلاً في داخلي، هو قوة هذا الرجل، فمهما كانت حياته جميلة في الداخل، إلا أنّه حينما يبتسم، فهو يعرف أنه يبتسم دائمًا للمجهول. لا يعرف الأعمى إلى من يبتسم في الخارج، ولا يعرف أيضًا هل اُستقبلت هذه الابتسامة كما هو مطلوب أم لا؟ فإن رأيت كفيفًا يبتسم أمامك، فاعلم أنه تجاوز الكثير حتّى يحافظ على وجود هذه البهجة على وجهه.
لنقدّر النعم
بعد مرور ساعة كاملة تقريبًا، خرجَ من المقهى، ودخلتُ أنا إلى إدراك جديد. وعلمني في لحظات سريعة ما لم أتعلّمه في يوم كامل. كان ذلك الشخص رسالة واضحة، وتذكير مهم، وإشارة في وقتها المناسب. علمني حضوره السريع، والكثيف أنّ الابتسامة تبدأ من الداخل، وأنّ الاتسّاع اتساع القلب، وأنّ الطمأنينة الحقيقية هي طمأنينة الروح. علمني أنّ السعادة اختيار، والعمى لم يكن يومًا عمى البصر إنمّا عمى البصيرة. علمني أن أعيد الانتباه إلى ما كنت أعتبره من دون قصد من المسلمات، أن أقدّر نعمة البصر أكثر، وأن أجدّد امتناني إلى كلّ الحواس التي أعيش من خلالها من دون جهد يُذكر.
علمني أن أكون ممتن لرؤية كلّ شيء بهذه السهولة، وهذه السرعة؛ سحر الطبيعة، جمال الألوان، وعفوية الملامح التي تضحك. في نصيحة مباشرة، تقول هيلين كيلر الأديبة العمياء التي وصفها الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين بأنّها أحد أهم شخصيات القرن التاسع عشر إثارة للاهتمام: “استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهدّدين غدًا بفقد هذه النعمة، وإنّ النصح نفسه ينبغي تطبيقه على سائر الحواس الأخرى.” وأنا أقول، تذكّر بأنّ عينيك التي تقرأ بها هذه الكلمات نِعمة، وسعادتك التي تعتقد بأنها مستحيلة، اختيار، وأنّ قدرتك على الامتنان يجب أن تفوق دائمًا قدرة اليأس على قلبك.