من منا لم يغالب رغبته في الحديث عن الحياة، وعن الحب، وعمّا يشغل عقله، وعن أي أمرٍ يحبه، خوفًا من خروج كلماته بشكل لا يتماشى مع ما كان في عقله، فيُعرض عن مشاركتها مكتفيًا بالأحاديث التي تدور في عقله فحسب، مع أن الحاجة إلى تشاطر الكلمات يتعدى الأحاديث العادية أحيانًا، ليتمثل في رغبةٍ عن كشف جزءٍ مختبئٍ من ذاته، وموقفٍ تسبب في حزنه، تماشيًا مع العرف السائد حول المخاوف التي يشكلها الحديث عن الضعف والحزن، كما أننا نسمع كثيراً من العبارات المتداولة والنصائح التي تحض المرء على تجاهل حزنه، والركض خلف مساعيه، أو الانشغال بما يحب، متجاهلاً مشاعره السلبية كي لا يتأثر بها أثناء رحلته، بينما يجدر به أن يقف قليلاً ليعيرها اهتمامه، ويستمع إلى ذلك الصوت بداخله مهما بدا حزينًا خائفًا، فمجرد إصغائه يعد مصدر أمانٍ يخفف من وطأة الحزن، وكل ما تتم مشاركته ينقسم إلى جزئين، أو عدة أجزاء، تجعل منه حِملًا أقل ثقلًا.
مشاركة المشاعر بمختلف أنواعها مع من يُحسن تقديرها والإنصات إليها ، تعمل على إزالة التراكمات شيئًا فشيئًا وتخفف من وقع المواقف والأحداث العابرة العالقة في اللاوعي، فكما ينفتح الإنسان عاطفيًا تجاه أفراحه ويأنس بالتحدث عنها، يستحسن أن يمنح ذاته فرصة الانفتاح تجاه حزنه، وتحقيق الانفتاح تجاه عواطفه كافة مع الآخر، فربما تكون هذه الطريقة بمثابة عزاء ومواساة له، وإتاحة الفرصة لمعرفة ما إذا كان هناك من يشاطره المشاعر ذاتها، أو من يحمل وجهة نظرٍ مغايرةٍ قد توضّح الصورة المشوشة أمامه.
يمكن لاختيار التوقيت المناسب أن يشكّل فارقًا كبيراً في مدى قابلية الاستماع من عدمها، فليست كل الأوقات مناسبة لأن يبوح المرء بما يخالجه، فقد يكون الطرف الآخر ليس على استعدادٍ للخوض في أحاديثٍ عاطفيةٍ لا تتناسب مع الظرف الحالي، كما أن اختيار الشخص المناسب لا يتطلب أن يكون من ذو خبرةٍ أو اختصاص يمكّنانه من تقديم حلول أو استشارات، بقدر أهمية استعداده لاستقبال العواطف والإصغاء للمشاعر التي يبوح بها الطرف الآخر، والمتحدث غالبًا ليس بحاجةٍ لاتباع نصائح أو ارشاداتٍ معينة، بقدر ما هو بحاجةٍ لأن يتخفف من حمولة.
إن مبدأ الانفتاح العاطفي، يُحسّن من حالتنا المزاجية، ويجعلنا أشخاصًا قادرين على الأخذ والرد في شتى المجالات؛ لأن المشاركة لا تنحصر على الأسرار أو المناطق المعتمة التي قد يشكّل الخوض فيها انتهاكًا للخصوصية، بل على العكس تمامًا، فأبسط المواقف يمكن لها أن تكون نقطة بدايةٍ لتحسس مدى أمان المنطقة التي سنقبل عليها للننفتح عاطفيًا، ومنها يمكن أن نقيس مقدار القبول والتجاوب من عدمه.
بالعودة إلى ما سبق ذكره عن اللجوء للعزلة و الانغلاق على عواطفنا، ظنًا بأنهما يساعدان في تناسي الأعباء التي نحملها، أرى أن اتباع هذه الطريقة بمثابة التغاضي عن بالونٍ قابلٍ للانفجار في أية لحظة، فالعواطف بحاجة لأن يتم التعبير عنها والخوض فيها، وبحاجة إلى أن يُنظر إليها وتؤخذ بجديةٍ حتى لو تم تغليفها بشيءٍ من الهزل كي يزيل حدتها، ولا يخفى علينا أننا في الأصل كائنات اجتماعية، لا يمكنها العيش في معزلٍ عن الآخرين، وأن ذلك قد يؤثر على روحها، مهما بدت سعيدةً قانعةً من الخارج.
الانفتاح العاطفي يشمل انفتاحنا على أنفسنا، عبر التفكر مع ذواتنا، ومحاولة التوصل إلى ما يزعجنا وفهم جذوره واقتلاعها، ويمكن تحققه عبر وسائل عدة، كالمشي لنصف ساعة في اليوم، يتجدد معها فكرنا وطاقتنا، أو من خلال تدوين مشاعرنا، وكتابة كل حدث مزعج أو مُفرح، نشاركه قدر الإمكان لنفرغ حمولنا حيث يتسع لها المكان ويشملها بأي طريقةٍ كانت، وهذا الانفتاح بشتى طرقه يجعل من صغائر عواطفنا السعيدة، أحداثًا عظمى، ويقلص الحزين منها لأحجامٍ تكاد لا ترى، وتلك هي الغاية من تقاسم حملها وتشتيته.
ومما لا شك فيه أن الإنسان يؤثر ويتأثر بما يُلقى على عاتقه من الأحاديث، ومما يستمع إليه ويحتفظ به في ذاكرته، فتجد تلك الكلمات مكانها المناسب،كطقعة أحجية ناقصة تُكمل بقية القطع، وتجعل المشهد أكثر ملائمة ووضوحًا، فبعض الوقائع لم تجد طريقها إلينا عبثًا، إنما جاءت لتقوينا، وتبث الأمل في عزائمنا، لندرك أننا قد لا نكابد المعاناة وحدنا، وأن في الحياة ما يستحق أن ننظر إليه برضا.
شاركنا تعليك من هنا