أحيانًا أشعر أنني مجرد انعكاس، صورة تتغير وفق ما يمر بي، كأنني ماء يتشكل بما يُلقى فيه. قسوةٌ تُثير فيّ قسوة، ولينٌ يوقظ لطفًا، وكأنني مرآة تعكس ما تتلقاه دون أن تختار. لكن هل أنا مجرد انعكاس؟ أم أن بإمكاني أن أكون المصدر، أن أقرر كيف أُرى، بدلًا من أن أُترك للضوء ينعكس عليّ كيفما يشاء؟
أفكر في الألم... كيف يسري بين الناس كوراثة غير مكتوبة، ينتقل دون وعي ليعيد خلق نفسه في قلوب أخرى. لكنه ليس قدرًا محتومًا، يمكننا أن نكسره، تمامًا كما تكسر العدسة الشعاع، نوجهه إلى حيث يكون أكثر نورًا وأقل حدة. يمكننا أن نحوله من دوامة تُعيد نفسها إلى بذرة تُنبت فهمًا ورحمة، فنزرعها في أرض قلوبنا ونرعاها بالإحسان، لا بالاستسلام. ليس الأمر سهلًا، لكنه ليس مستحيلًا أيضًا، فكما أن العادات تُورّث، يمكن للوعي أن يكون إرثًا كذلك، إن اخترنا أن نغرسه في ذواتنا وفي من حولنا.
لكن كيف نحافظ على هذا الثبات وسط العواصف؟ كيف لا نكون جزءًا من الدوامة؟ يكمن السر في أن يصبح الوعي عادة، لا عبئًا، كما يتدرب المحارب حتى يصبح سلاحه امتدادًا لذراعه. فالثبات ليس هبةً تُمنح، بل مهارة تُكتسب بالتكرار، وبالتوكل على من بيده كل شيء. إنه إدراكٌ مستمر بأن القوة الحقيقية لا تكمن في مقاومة الحياة بعناد، بل في فهمها، في معرفة متى نصمد ومتى ننحني دون أن ننكسر.
أما مقاومة التيار دون أن نجرف معه، فهي تبدأ من المراقبة الداخلية: أن ترى أفكارك كسحابة عابرة، لا تسمح لها أن تغرقك، أن تمسك بزمام مشاعرك كما يروّض الفارس فرسه الجامح. بالنسبة لي السجود هو محطة إعادة ضبط؛ اللحظة التي أعيد فيها توجيه قلبي فلا أكون مجرد صدى لما يمر بي، بل مصدراً لما هو أنقى وأبقى. وأنا اخترت السجود، لكن كلٌّ منا له مصدره الذي يعيد إليه اتزانه، المكان الذي يلجأ إليه ليكسر الدائرة قبل أن تُعيد خلق نفسها. وما دام هذا المصدر يربطنا بالنور، فهو كافٍ ليجعلنا أكثر وعيًا وأقل عرضة للانجراف.
وهذا الوعي، خلافًا لما يظنه البعض، ليس حملًا يثقلنا، بل نورٌ نحمله برفق، كمن يضيء مصباحًا في الظلام، لا لنفسه فقط، بل لمن حوله. والقوة ليست في القسوة، كما أن اللين لا يعني الاستسلام. الحكمة تكمن في التوازن: أن ترد بحزم يوقف الأذى دون أن تفقد إنسانيتك، وألا تكون مجرد صدى لما يُفرض عليك، بل تختار كيف تكون وفق بصيرتك وإيمانك.
في النهاية، نحن من نختار كيف تُروى حكايتنا حين نلتفت إلى الوراء. هل سنرى عمرًا مضى في التكرار والتخبط، أم رحلةً صاغتها الحكمة، حيث لم نكن مجرد عابرين يُعيدون ما وقع عليهم، بل كنا من يضيء الطريق لمن بعدهم؟ ما نزرعه اليوم من صبرٍ ووعيٍ وإحسان، لن يكون مجرد أثر في هذه الحياة، بل شهادةً تُعرض علينا يوم الحساب. وحين نقف أمام أعمارنا في الآخرة، هل سننظر إليها بفخر، أم سنتحسر على ما كان يمكن أن يكون؟ في تلك اللحظة، لن يبقى معنا سوى ما صنعناه حقًا، ما اخترنا أن نكونه رغم كل شيء.
شاركنا تعليقك من هُنا