ترددتُ عدة مرات قبل الشروع في كتابة هذه التدوينة، وأجهل السبب الحقيقي خلف هذا التردد. هل لأن
الموضوع بالٍ ومستهلك، والحديث عنه أشبه بالنفخ في قربة (مفقوعة)؟ أم لأنني، كغيري من
النساء، لم أستطع تحديد مشاعري ووجهة نظري تجاهه بدقة بعد؟
لكنني عقدت العزم على كتابتها بعدما شعرت بكمية
الضغط الذي نتعرض له نحن النساء، خصوصًا من أنفسنا، وتحديدًا بعد حديث خضته مع إحدى
صديقاتي. فكما جرت العادة، سألتها في سياق عفوي عن حالها، وتطرقت بعد ذلك إلى
حياتها العملية التي تخلت عنها لفترة في سبيل رعاية أطفالها. فكان الرد أنها عادت
لمضمار السباق المحموم للبحث عن وظيفة مناسبة، ولكن ما أثار دهشتي هو أن تتبع تلك
الجملة بقول: "كلما قدّمت على وظيفة أكون خايفة يقبلوني."
هذا الشعور الذي أفصحت عنه، والتناقض الواضح بين
مشاعرها وأفعالها ليس إلا نتيجة للإطار الحديث الذي احتجزت المرأة نفسها فيه. فبعدما
كان الإطار القديم يُقدّم المرأة الناجحة السعيدة في الحياة كزوجة صالحة وأم حنون،
تُختزل قيمتها في نجاح حياتها
الزوجية ومدى صلاح أبنائها، متجاهلين بذلك تحصيلها العلمي وضرورة استقلالها المادي
وإنجازاتها العملية، ظهرت اليوم معايير تقييم جديدة كان من المفترض أن تسلط الضوء على
المرأة كجزء أساسي من الحياة العملية وتزيد من قيمتها. إلا أنها تحولت، بفضل التفكير
الجمعي وتقبّل القوالب الجاهزة، إلى إطار جديد يختزل قيمتها مجددًا، ولكن هذه المرة من
خلال وظيفتها وإنجازاتها العملية، جاعلًا من رغبتها واختيارها التفرغ لتربية أبنائها
أمر مخجل لا يجب أن تبوح به. وهكذا انتقلت من قيود اجتماعية تقيمها بناءً على دورها
الأسري
إلى قيود أخرى تقيمها بناءً على إنجازاتها المهنية، فأصبحت فكرة استقلاليتها تخضع
لمعايير مجتمعية تحد من حريتها وتفرضها وفق قالب معين.
كيف تستطيع المرأة تحديد ذاتها دون أن تُختزل
قيمتها في معيار واحد، سواء كان زوجة وأمًّا أو موظفة ناجحة؟
منذ الطفولة، والفرد منا يُلقَّن كل شيء من قبل
أفراد عائلته ومجتمعه: ما هو الزي المناسب للظهور، والطريقة المهذبة عند الحديث،
والمسموح والممنوع… إلخ. فتتكون لدينا خلفية ثقافية معينة
نبني على أساسها قيمنا ومبادئنا وشكل الحياة التي نريد. حتى نصل إلى مرحلة الاستقلال
الفكري، الذي من خلاله نستطيع تكوين مبادئنا الخاصة ونتخلى عن تلك التي لم تعد تتماشى
مع الحياة التي نطمح إليها. ولكن حتى عند اتخاذ قراراتنا التي نميل إليها، ما نزال
مقيدين نفسيًا بالنسق الثقافي ونظرة المجتمع لما نرغب به. وهذا تمامًا ما تتعرض له
المرأة من صراع نفسي بين رغبتها الحقيقية وما يُروَّج له على أنه القالب المثالي لها.
ففي الماضي، كانت المرأة محصورة من قبل مجتمعها في دور الأم المربية، مما جعلها تسعى
جاهدة للعب
ذلك الدور ببراعة ونيل التقدير من أفراد مجتمعها، متخلية بذلك عن أي رغبة حقيقية تطمح
لها. بينما الآن، تكافح للتخلص من فكرة "ربة المنزل" المرتبطة بأسلوب حياتها، حتى لو
كان ذلك الأسلوب هو ما تصبو إليه ويحقق لها القيم التي تؤمن بها.
أخيرًا، ما أود إيصاله من خلال هذه التدوينة، هو
أن تتوقف المرأة عن تقبل أو صنع القوالب الجاهزة وغير المرنة لبنات جنسها، وألا تطالبهن
بأن يكونوا نسخة مطابقة لها، فتنظر لمن اختارت أن تحقق ذاتها من خلال التعلم وتحقيق
الإنجازات
المهنية بدونية في زمن، وتحقر من ربة المنزل في زمنٍ آخر.
نحن كنساء مُنحنا دينيًا، ومؤخرًا
مجتمعيًا، حرية العمل والاستقلال المادي، ووهبنا الله فطريًا وكونيًا شرف الأمومة
وتربية الأجيال. فأيًا كانت رغبتك وقدرتك، سواء بالجمع بينهما أو باختيار ما يتماشى مع
قيمك ومبادئك ويحقق لك السلام الروحي، فهو القرار الصائب. فالاستقلالية الحقيقية لا
تكون بالسير خلف ما يُروَّج له على أنه استقلالية، بل في أن تستقل بتفكيرك ورغباتك عن
تفكير الجميع وتنفصل بذاتك الحقيقية
عن النماذج التي فُرضت عليك بشكل لا واعٍ، دون أن تنظر بدونية لخيارات غيرك.
شاركنا تعليقك من هُنا