وانطلاقًا من هذه الأسئلة، توصّلتُ إلى بعض المعلومات والتقنيات والحلول للتخلّص من وطأة عقلي، الذي يحاول التحكم في كلّ شيء في آنٍ واحد.
هل يحميني عقلي؟
العقل هو الأمانة التي كرّم الله بها بني آدم، نميّز به الصواب من الخطأ، ونتجنّب به المزالق، وندير به حياتنا بقدرٍ من الأناة والتروّي.
العقل، في صورته المتّزنة، نعمةٌ عظيمة تحمينا من طيش اللحظة، ومن تبعات القرارات المتسرعة، ومن الندم بعدها.
ومن المعروف أن العقل، إن أنتَ حكّمته، لا يقبل الاحتمالات المفتوحة، ولا العبث، ولا العشوائية، بل يبحث دومًا عن الهيمنة، عن الأمان، وعن التحكم في كل مجريات حياتك. بل قد يجرؤ ويطلب الصورة الكاملة قبل أن تبدأ حتى.
ولكن، ماذا لو حكّمناه مطلقًا، وزاد حضوره عن الحدّ المطلوب؟
كيف يقتل العقل المتعة؟
وطأة العقل حين تشتدّ، تصبح كثقلٍ تحمله معك أينما حللتَ وارتحلتَ، حتى في أكثر لحظاتك خفّةً. فالعقل، حين يُفرط في الحضور، سيحاول تطويع الأمور لمساحته الآمنة.
وبهذا، يقتل فيك كلّ دهشة، ويرغمك على الحذر من المجهول، والخوف من مستقبلٍ قد لا يأتي!
تبدأ وطأة العقل خفيفة، مغلّفة بالطمأنينة، وبالإحساس بالسيطرة على كلّ شاردة وواردة في حياتك. إلا أنك ستدرك – وأتمنى ألا يكون ذلك بعد فوات الأوان – أن المشكلة ليست في كونه يفكّر ويخطط، بل في رغبته في السيطرة التامة على دفق الحياة غير المتوقّع وعفويّتها.
وستجد في آخر المطاف أن هذا العقل، الذي يخاف الخطأ واللامتوقّع، هو في الحقيقة… يخاف الحياة!.
إنّ الإجابة على سؤال "هل يحمينا العقل أم يحرمنا المتعة؟" تكمن في الواقع في فهم أنّ الحياة ليست ساحة معركة بين رغباتنا ومُتعنا العفوية وغير المتوقعة، وبين عقلنا الذي يميل إلى التحكّم والسيطرة وتوقّع النتائج.
بل هي مساحة رحبة تسعُ كليهما. وأيّ خللٍ أو إقصاء لأحد الطرفين سيشوّش عليك، ويجعلك إمّا تعيش بعبثٍ مطلق، لاهثًا خلف كلّ متعة عابرة دون بوصلة، أو تنكمش داخل قوقعةٍ من الحذر والخوف، تراقب الفرص وهي تضيع، وأنت داخل قلعةٍ زجاجية شفافة تخشى الحياة.
إنّ الحياة الحقيقية، يا صديقي، هي حبلٌ مشدودٌ بين طرفين: تتطلّب منّا يقظة العقل كي لا نفقد المعنى، وخفّة القلب كي لا نضيّع اللحظة.
وبين هذا وذاك، يحدثُ أن نخطئ أحيانًا، ونغامر، ونحتمي أحيانًا أخرى، وأن نكتم صوت العقل أحيانًا، ونُطلق له العنان أحيانًا أخرى.
بعد تفكير عميق، أدركتُ مؤخرًا أنني كنتُ أعيش داخل غرفة تحكّم يقودها العقل وحده، يزنُ كلّ خطوة بمقياس الربح والخسارة، وكأنّ الحياة مسألة حسابية لا تحتمل الخطأ، ولا تعرف المفاجآت.
لكنني نسيت – أو تجاهلت – أن الحياة ليست مسألة رياضية دقيقة.
أدركتُ أن العيشَ فنٌّ يحتاجُ شيئًا من الجرأة، ومن العفوية، ومن الرضى والتسليم بأننا بشرٌ لا نفهم كلّ شيء، ولا يجب أن نُخطّط لكل شيء.
حين سيطر عقلي عليّ، جعلني أراقب الحياة أكثر مما أعيشها، أجّل لحظاتي، وحرمني من دفء التجارب، ومن خفّة اللحظات التي لا تتكرّر.
واليوم، لا أسعى إلى كبح عقلي، ولا إلى إطلاق قلبي بلا وعي، بل أتعلّم – رويدًا رويدًا – أن أعيش بين الاثنين، أن أترك مجالًا للدهشة أن تدخل دون استئذان، ولا تخطيط مسبق.
وأن أسمح للقلب أن يُخطئ ويتعلّم، وللعقل أن يُرشد دون أن يُهيمن.
ولعلّ أجمل ما تعلّمته مؤخرًا، أنّ النجاة لا تكون دائمًا في الحذر من كلّ ما لا يمكن توقّعه، بل أحيانًا، تكون في القبول بأن نعيش بخفة من لا يملك السيطرة على كلّ شيء، ولكن يكفيه أن يُحاول.
شاركنا تعليقك من هُنا