أرى أنه من الغريب مرور السنوات على الإنسان دون أن تغيّره أو تحفر أثرها عليه، فنغيب عنه لسنواتٍ ثم نعود لنَجِده كما هو، يحمل الفكر ذاته، ويتبنى من المعتقدات ما يجزِم أنه من المسلّمات، وإن كانت في الحقيقة محض ترهاتٍ لا أساس لها، إلا أنه يؤمن بها أشد الإيمان، وعلى استعدادٍ للدفاع عنها؛ لأنها تمثل مصدر أمانه الوحيد الذي يعرفه، دون أن يطرأ عليه تبديلٌ أو يمسه طرفٌ من التغيير.
ربما يكون ذلك خوفًا من تهمة التناقض، أو تهيبًا من التغيير وتبعاته، ولكن تلك الافتراضات ما هي إلا أوهام تحبس المرء داخل زنزانةٍ من الرتابة، لا يقدِر فيها على الخروج، ولا يجرؤ على اتخاذ سلوكٍ مغايرٍ للعادة، عبر استراق النظر ورؤية ما يحمله العالم بين أجنحته.
وهنا يكمن الخطر، فطبيعة الحياة تُحتم على الإنسان الاستجابة للمتغيرات من حوله، بوعيٍ منه أو دون وعي. فعندما لا يتكيّف مع الأدوات التي تساعده على تطوير ذاته، وتمهّد له الدروب التي تمكّنه من تطويرها، ولا يأبه لتعلُّم مهارةٍ أو تلقّي علمٍ ينفعه، يتجرّد من مرونة تعلُّم مهاراتٍ حياتيةٍ شتّى.
ولكن ماذا لو بقي كما هو، دون انفتاحٍ على التغيير بقصدٍ أو بلا قصد، واستمر في اعتناق مبادئه التي لم يُكلّف نفسه عناء التفكّر فيها، والتساؤل عن صحّتها، ألن يكون الوضع بائسًا إلى حد الشفقة؟
إن التغيّر الذي يطرأ علينا جرّاء التجارب، والخوض في دهاليز الحياة، والذي يكون دون إرادةٍ منّا، بحيث لا نشعر بقوّته الجارفة، لكن من حولنا مخوّلون بالشعور به والتماسه؛ لأنهم ينظرون إلينا بعينٍ مغايرةٍ للعين التي ننظر بها إلى أنفسنا، هو بمثابة هبةٍ ترتقي بنا إلى مرحلةٍ من النضج، حتى إن لم نمنح كامل الحرية في اختيار هذا المسار.
ويتجلّى الاختلاف هنا بسبب انجرافنا نحو سلوك وعادات ومعتقدات تبرمجت عقولنا عليها مع مرور الزمن، ومع تنوّع مصادرها واختلافها.
أما التغيّرات التي تُحدث فجوةً بيننا وبين من يملك حصانةَ الإفلات منها، فنابعةٌ من تقبّلنا للعالم بلونه غير المألوف، وبرغبتنا في المعرفة.
فهي تحمل أثرًا محمودًا؛ لكونها جاءت لتلبّي النهم المتزن نحو الإلمام بركائز الحياة، فتتبنّى توجّهاتٍ معيّنة، وتسلك طرقًا رغم مطبّاتها، إلا أنها تؤدي إلى وجهةٍ معلومة.
وشتّان بين من يُمسك بزمام القيادة ويصبح ربان رحلته، ومن يترك للحياة حرية اتخاذ المسارات التي يتعلّم من خلالها، وتبرع في تلقينه دروسًا لا يتّعظ منها فور أن يتلقّاها.
ويحدث هذا حين تأتي شرارةٌ لتنير العقل لثوانٍ معدودات، يُبصر فيها الإنسان ما حوله، فإما أن يُكمِل في درب الاستقصاء والفهم، ويسمح للشرارة أن تتحول إلى مصباحٍ يهتدي به لينير عتمة حياته إلى الأبد، أو يتجاهل مصدر تلك الشرارة وسببها، ويمضي بقية عمره متأخرًا بمسافةٍ شاسعة.
أعتقد أننا قد نُفضل أحيانًا البقاء أسرى للعادة، متجاهلين أهمية النظر إلى ما هو أبعد من مساحاتنا المحدودة، التي غالبًا ما يطوّقها الجهل.
في الواقع، لن تأتي الدروس على طبقٍ من ذهب إن لم نرغب بتعلّمها وخوض التجربة، فالغوص في بحر التجارب بمثابة التنقيب عن الكنوز المخبّأة بعيدًا عن أيدي من يتجاهلون أهمية العلم، ويخشَون أن يؤثّر على فكرهم، فيغيّرهم، مع أن التغيير سمةٌ من سمات البشر الحميدة، إن هي خدمت فكرهم وأحدث أثرًا إيجابيًا يسهم في وعيهم بما حولهم.
فالحياة تضعنا في اختباراتٍ شتى ينبغي أن نكون أكثر يقظةً وتقبّلًا لصعوبتها، كي تصقل ذواتنا، وتُهيّئنا للوصول إلى مراحل عالية من فهم الذات وفهم محيطنا، بل قد تكون تلك التجارب والاختبارات صاحبة الفضل الأكبر في نضوج الفكر، وفك رموز الكثير مما نجهل.
وللتعلُّم الذاتي وسائل لا حصر لها في زمننا الحالي، فيمكن لنا أن نجد ضالّتنا بين الكتب، أو جرّاء نقاشٍ مع عقولٍ فذّةٍ تسمح لنا بطرح أفكارنا وتبادل تساؤلاتٍ تُثمر عن اقتناعٍ أو تحضّ على الاستمرار في البحث عن إجابات.
وهناك آلاف القنوات التي تبثّ العلوم بأشكالها المرئية والمسموعة عبر محركات البحث الشهيرة، نستطيع أن نأخذ منها ما يتناسب مع معتقداتنا، ونترك ما يتنافى معها.
تلك الرحلة، مهما بدت شاقة، إلا أنها لا بد وأن تترك أثرها على عقلية الإنسان بشكلٍ أو بآخر، دون أن تتركه على نفس الهيئة التي بدأ بها رحلته.
قد يصبح الوعي لعنةً، والتغيّر آفةً، في غالب الأحيان، وقد لا يُسرّ من أُصيب بموجتهما كلّ السرور، لكنّهما أخف ضررًا من البقاء تحت غشاوة الجهل، فهما المُحفّزان ليعمل العقل، ولا يتعفّن من انعدام الفكر، والبقاء داخل منطقة الراحة بعيدًا عن طرح التساؤلات والبحث عن الحقائق.
فمحدودية التفكير فقاعةٌ قابلةٌ للانفجار، سواء كان البقاء داخل تلك الفقاعة بقناعةٍ أو بالإكراه، فلا بدّ لشظايا الجهل أن تتناثر إذا عقد الإنسان عزمه على الفتك بها، ونصرة العلم في معركته.
شاركنا تعليقك من هُنا