ماذا سيحدث لو توقّفنا عن إنكار حقيقة بسيطة ومؤلمة في آن واحد: أن كل شيء في هذه الحياة زائل؟
الأشخاص الذين نحبّهم، الممتلكات التي نتشبّث بها، الإنجازات التي نفخر بها، وحتى نحن أنفسنا… كلّها محكومة بالفناء.
لكن، ماذا لو عشنا هذه الحقيقة لا كواقع مؤلم، بل كوعي يمنحنا الخفّة والحرية؟
ألسنا بحاجة إلى هذا الوعي وسط حياة تزدحم بالتعلّق، بالخوف، وبالركض وراء ما لا يدوم؟
يهدأ صوت الأنا
أول ما يحدث عندما ندرك زوال كل شيء، أن "الأنا" الصاخبة في داخلنا تخفت. ذلك الصوت الذي يجعلنا نبالغ في الفرح أو الحزن، يفقد قوته شيئًا فشيئًا، فتصبح مشاعرنا أكثر توازنًا، ويقلّ انفعالنا تجاه تقلبات الحياة.
تأمّل لحظة نجاح حققتها يومًا، كم فرحت بها؟ ثم بعد شهور أو سنوات، أين ذهبت تلك النشوة؟
وتأمّل لحظة حزن قاسٍ مررت بها، واعتقدت أنها ستكسر حياتك، ثم اكتشفت مع الوقت أنها لم تكن سوى صفحة في كتابك الطويل.
وهكذا ندور في حلقة مفرغة: فرح يذوب، وحزن يتلاشى، ولا يبقى سوى الوعي الذي يتشكّل في خضم كل ذلك برويّة.
عندما نقف متأملين أمام هذه الحقائق، ندرك أن لا شيء يستحق أن ينهك طاقتنا أكثر مما ينبغي.
نقف بثبات أمام العواصف، نعيش بسلام داخلي لا تهزّه الأحداث، ونمنح أنفسنا فرصة أن نكون شهودًا على تقلبات الحياة لا أسرى لها.
لا نملك شيئًا… ولا شيء يملكنا
من هذا الوعي يولد اكتشاف أعمق: أننا لا نملك شيئًا، والأجمل من ذلك أن لا شيء يملكنا.
هنا تبدأ الحرية الحقيقية. ننظر إلى الحياة بخفّة، نتحرّر من عبء التعلّق، فلا نعرّف أنفسنا بوظيفة، أو علاقة، أو إنجاز.
كثيرون يظنّون أن قيمتهم تُقاس بما يملكون: بيت واسع، وظيفة مرموقة، أو حتى دائرة معارف لامعة.
لكن ماذا يحدث حين يختفي كل هذا فجأة؟ من يبقى؟
الجواب هو: أنت، بوعيك، وبروحك، وبما تحمله داخلك. حين تنبع قيمتنا من الداخل لا من الخارج، نصبح أكثر خفّة. تصغر الدنيا في أعيننا، ويكبر داخلنا مفهوم الروح والوعي. لا يهدّد الفقد سلامنا كما كان، ولا يغوينا الامتلاك كما في السابق. الأمر أشبه بانتقال من ضيق القوقعة إلى رحابة السماء، نتحرّر من هوية مؤقتة لنعانق هوية أوسع، تتجاوز الزمان والمكان.
مواجهة الأنا الزائفة
لكن… ما الذي يمنعنا من الوصول إلى هذا الوعي؟
إنها "الأنا الزائفة": ذلك الصوت الخفيّ الذي يوهمنا أن الأمان في السيطرة، وفي الامتلاك، والاستمرار.
يتغذّى هذا الصوت على المعاناة، لأنها تمنحه شعورًا بالوجود. أمّا السلام الداخلي، فهو بالنسبة له غربة تهدّد بقاءه.
تأمّل كيف يقودنا هذا الصوت إلى القلق المستمر:
نخاف أن نفقد ما نملك.
نرتعب من فكرة الفشل.
نتعلّق بالآخرين كما لو كانوا ضمانًا لبقائنا.
لكن، في اللحظة التي نقرّر فيها وضع حد لهذه المعاناة، تنهال علينا القيود والأفكار والعقبات:
"ستفقد قيمتك!"، "لن يحبّك أحد!"، "من دون هذا الشيء ستضيع!".
ورغم صعوبة مواجهة هذا الصوت، إلا أن تلك اللحظة هي بداية الطريق نحو التحرّر الحقيقي.
إنها ليست لحظة مريحة، لكنها أشبه ببوابة: إن تجرّأت على عبورها، ستكتشف عالمًا آخر، عالمًا لا تعرّفك فيه مخاوفك ولا تقيّدك فيه أملاكك.
نعيش بخفّة
التحرر لا يعني أن نهجر الحياة أو نرفض مباهجها، بل أن نعيشها دون أن نُستعبَد لها.
أن نفرح دون خوف من الفقد، ونحب دون قلق من الرحيل، ونسعى دون أن نربط قيمتنا بالنتائج.
الحياة بخفّة لا تعني سطحية، بل عمقًا مختلفًا: أن نكون في قلب التجربة لكن بوعي، أن نرقص مع إيقاع الزمن ونحن نعلم أن اللحن سيتوقف في النهاية.
أليست هذه الخفّة أجمل من التشبّث؟ أليس التحرر أبهى من الامتلاك؟
إن إدراك زوال كل شيء ليس دعوة للحزن، بل فرصة للوعي، للتحرّر، وللعيش بخفّة وسلام.
حين نتعلّم كيف نصغّر الدنيا في أعيننا، نكتشف أن داخلنا يتّسع لشيء أكبر من كل ما نفقده أو نحلم به.
في النهاية، لسنا مجرد لحظة عابرة في الزمن، بل جزء من حكاية أعظم من الحياة والموت.