لم نعد أصدقاء كما كنا.
كان يمكن لضحكة واحدة أن تُذيب كل الخلافات، وكان يمكن لسطر عابر في رسالة أن يُعيد الدفء.
أما اليوم، فحتى المحادثات الطويلة لا تصل، والمجاملات لا تدفئ، واللقاءات لا تُشبهنا.
السنوات كلها تغيّرت. الصداقة تغيّرت، أو ربما تغيّرنا نحن؟ صار القرب مجرد “متابعة”، والاهتمام مجرد “تفاعل”، والبوح مقنن، يخضع لرقابة العقل لا انسياب القلب.
فهل ما نعيشه الآن من برودة في العلاقات، وتحول الصداقة إلى أمر سطحي ومؤقت، هو نتيجة حتمية لعصر السرعة والانشغال؟ أم أن ثمّة جذورًا أعمق علينا أن نبحث عنها؟
ما الذي حدث بعد كل هذا القرب؟
في الماضي، كانت الصداقة تُبنى على التفاصيل الصغيرة، على مشاركات عفوية، ومواقف يتراكم فيها العِشرة والود. لم تكن الروابط تُقاس بعدد الرسائل ولا بسرعة الرد، بل بقوة الحضور حين يغيب الجميع.
لكننا اليوم نعيش في عالم تُمنح فيه الأولوية لكل شيء قبل الإنسان، حيث تُستبدل العلاقات برموز تعبيرية، ويُختصر الحنين في “ستوري”. لقد تشوّه مفهوم الصداقة. نعيش مفارقة غريبة: لم نكن يومًا بهذا القرب التقني، ولم نكن يومًا بهذا البُعد الشعوري.
باتت الصداقة عبئًا أحيانًا، والمصارحة مخاطرة، و”العلاقة الوثيقة” صارت بلا ملامح واضحة، والاستمرار مجهودًا يُثقل الروح. ووسط هذا التحوّل، لم تعد العلاقات تنكسر بصخب، بل تذبل بصمت. دون مشادة أو وداع، فقط صمت متكرر، وانشغال معتاد، وقلب يتأقلم على الغياب تدريجيًا.
عندما صار الانسحاب أكثر سهولة،
واحدة من المفارقات التي فرضها علينا العصر الرقمي أن الانسحاب من العلاقات لا يترك أي تبعات. أصبحنا نتقن فن الاختفاء، ونعتبر المسافة نوعًا من “الاستشفاء”. بضغطة زر، يمكنك حذف شخص كان يعني لك الكثير، بلا تبرير، بلا شرح، بدلًا من المواجهة أو الترميم.
لم يعد الوجع يُعبّر عن نفسه بالصوت العالي، بل بالسكون.
والأصعب أن كل هذا يتم بملامح هادئة، بالصبر على الفتور، بالصمت الطويل دون مساءلة. والأدهى من ذلك أننا بدأنا نتكيّف مع هذا البرود، وكأنه القاعدة لا الاستثناء.
يشير الباحث الأمريكي شيري توركل في كتابه Alone Together إلى أن وسائل التواصل قرّبت بيننا رقميًا لكنها باعدت بيننا وجدانيًا، فأصبحنا نختار التفاعل السطحي بدلًا من التواصل الحقيقي، وهو ما يؤثر سلبًا على عمق العلاقات وصدقها.
هل لا نزال نبحث عن الصديق الحقيقي؟
رغم كل هذا، لا يزال في داخل كل إنسان شوقٌ دفين لعلاقة صداقة حقيقية، علاقة تُشبه البيت؛ نلجأ إليها حين نتعب، ونثق أن وجودها لا يخضع للمزاج ولا للتقلّبات. الدليل؟ أننا لا نزال نذكر صديق الطفولة، “يفهمنا من دون شرح”، ونشتاق لتلك الأحاديث التي كنا نُكمل فيها جُمل بعضنا البعض، ونفتقد جلسة خفيفة مع شخص نكون فيها "بعضنا البعض".
صرنا نخشَى الالتزام العاطفي، ونحسب خطواتنا في العلاقات، ونتحاشى التورط خوفًا من الخذلان. نريد علاقة صداقة تُشبه أغاني الراحة، دون أن نتحمل أعباءها. إلا أن ما تغيّر ربما هو قدرتنا على بذل الجهد.
ربما الصداقة الحقيقية لم تختفِ، لكنها أصبحت تتطلب شجاعة. شجاعة أن تظل، أن تسأل، أن تعاتب، أن تؤمن أن الروابط التي تُبنى على الصدق والعمق لا يجب أن تُترك تذبل بسهولة.
فالعلاقات ليست بديهيات لا تموت، بل حدائق تحتاج سقيًا، وقلوبًا تعرف كيف تكون قريبة دون أن تُنهك، وكيف تكون صادقة دون أن تُؤذي.
قد لا نعود كما كنا، لكن لا شيء يمنعنا من أن نكون أفضل.
لعلنا بحاجة لأن نتوقف قليلًا، ونسأل أنفسنا: من يستحق أن نحافظ عليه؟ وما الذي يمكن أن نُحييه في علاقتنا قبل أن نفقده للأبد؟
هل لا زلت تُفكر في صديق لم تعد تعرف كيف تقترب منه؟
ربما، كل ما يحتاجه الأمر، رسالة حقيقية… تُكتب من القلب، وتُرسل في الوقت المناسب.
شاركنا تعليقك من هُنا