يحدث أن تنغمس في التساؤلات أو تبحر في شرح معنى أو سرد فكرة تجعل لحديثك وقعًا مميّزًا. يعلو صوت شخص آخر في الغرفة، قاطعًا طرقات حديثك متجاوزًا حبال أفكارك، وينعتك بالفيلسوف ظنًا منه أنه ذم. ولو سألته ما هي الفلسفة، لتأتأ وتلكّأ وولّى هاربًا يبحث عن مخرج. لكن السؤال هنا: لماذا يستخدم معظم الناس لفظ “فيلسوف” و”فلسفة” و”متفلسف” لكل حديثٍ أو تساؤل يشعل التفكير أو يثير عدوى التساؤلات والتفكّرات اللانهائية؟ وإذا أردنا طرح هذه الفكرة، فسوف نتساءل: ما هي الفلسفة؟ ومن أين جاءت؟ هل يجب أن تكون من كوكب آخر لتكون فيلسوفًا؟ هل يجب أن تطرح من الأسئلة ما لا يجيبه سوى خالق الخلق؟ أم يمكن أن يكون الجميع فلاسفة بطريقة أو بأخرى؟ أم يجب أن تكون ذا عقل خاص؟
نشأة الفلسفة
ميز الله الإنسان عن الحيوان بعقله وقوّة تفكيره. فالحيوان يسمع ويرى، بل ويتذكر أيضًا، لكنه يُسخّر هذه الملكات لحاجاته الوقتية وغرائزه الطبيعية. أما الإنسان، فيرى الكون وظواهره بكل أنواعها، يتصورها ويحللها ويُشكل رأيًا حيالها. يطرح الأسئلة ويجتهد في التعرف على العلل والعلاقة بالكون وظواهره. هذه هي الطريقة لفهم الشيء فهمًا واضحًا.
عندما نقول لشخصٍ ما إنه يتفلسف، نحن نعني بذلك أنه يفكر في شيءٍ خاص، ذاتيًا أو معنويًا. بعبارة أخرى، نقول "يتفلسف" أي يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض.
ما هي بواعث الفلسفة؟
يقول أرسطو: “إن الدهشة هي أول بواعث الفلسفة”. خُلق الإنسان مدهوشًا بكل ما حوله، ابتداءً بخلقه وولادته إلى كل ما حوله من عجائب الخلق.
يكمل مسيرة دهشته، فيرى الكون وظواهره، ويجابه ظروفًا مليئة بالتناقضات والتناسق من حوله، فيُثيره ذلك ويخرج العجب. فيبدأ بالسؤال: لماذا؟ كيف؟ وأين؟ ومن؟ وإلى أين؟ يرى هذا العالم لغزًا يحاول حله، وهذه المحاولة هي الفلسفة.
الفلسفة ونزعة المنفعة الإنسانية
إن أول ما يدفع الإنسان نحو الفلسفة هو ما يرجوه من منفعة. مثلاً، يُقال إن المصريين هم من وضعوا أساس علم الهندسة لحاجتهم إلى ذلك إثر فيضان النيل السنوي، أو البدو الكلدانيين الذين وضعوا أساس علم النجوم ليهتدوا بها في الطرق مع قطعانهم.
وعلى ذلك، يمكن القول إن ما يدفع الناس نحو الفلسفة هو تحقيق ما يرجونه من منفعة، سواء كانت جسمانية مادية أو روحية. وعندما رأى الإنسان عجائب الكون، بدأ بالبحث والتساؤلات، ووضع أساسات العلوم وتقييد المعارف ليحقق أقصى انتفاع لرعاية مصالحه. من تنوع الأرض وتفجر الأنهار من قسوة الصخور إلى أبراج النجوم التي زينت السماء الدنيا، إلى البحث عن الذات، عن النفس البشرية وأطيافها، عن المعضلات الأخلاقية والاجتماعية والأبعاد النفسية.
إن الأصل في الإنسان هو حب الاستطلاع والفضول، ولما وجد الإنسان في نفسه جهلًا، فكّر وتدبّر، تساءل وأوجد، وهذا ما يجعله يتفلسف.
استوقفني منذ مدة ترند على تطبيق “تيك توك” يصف فيه كل شخص كيف يتخيل اليوم الفلاني. مثلاً، أحد المقاطع كان “يوم السبت المغرب لو كان له شكل”، وقد جمع في مقطعه صورًا لمكيف شباك ذو السمفونية العذبة، ومراوح الهواء، والإضاءة البيضاء الطويلة الشهيرة، وكنب الكاروهات من الزمن الجميل.
رغم الضحك الذي غلبني إثر حديث داخلي من نوع “كيف كلنا زي بعض” الذي تمتلئ به التعليقات على هذا النوع من المقاطع والترندات، إذ تذكرت منذ مدة قد قلت في جلسة عائلية: “أحس الجمعة ريحته عود ولابس بشت”.
إلا أنني أخذت أفكر: كيف لشخص أن يتفكر في أيام الأسبوع، يتخيلها، يرسم لها صورًا ويضع لها شخصيات بطريقة تكاد تكون منطقية لواقعيتها، ويتفق الآلاف على تلك الواقعية؟
على ذكر ذلك، تذكرت جلسة تساؤلات فلسفية بيني وبين أختي، طرحنا فيها أسئلة من قبيل: لماذا سُمّي البرتقال برتقالًا؟ وكيف تبيض الدجاجة؟ ومن هذه التساؤلات البسيطة، التي تبدو للبعض سخيفة، تتفرع التساؤلات والتفكرات لتصل للأعظم. كل شيء يبدأ بفكرة، والفكرة تبدأ بسؤال.
يقول فيثاغورس، والصحيح نسبته إلى سقراط: “الحكمة لله وحده، وإنما للإنسان أن يجتهد ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبًا للحكمة، تواقًا إلى المعرفة، باحثًا عن الحقيقة”. وهذا ما يدل عليه اشتقاق كلمتي “فلسفة” و”فيلسوف”، فهما مأخوذتان من كلمة “فيلوس” بمعنى محب، و”سوفيا” بمعنى الحكمة، فمعنى “فيلسوف” هو محب الحكمة.
وكانت كلمة “سوفوس” تطلق على كل من كمل في شيء سواء كان عقليًا أو ماديًا، فأطلقوها على الموسيقى، والطاهي، والبحار، والنجار، ثم اقتصرت على من مُنِح عقلاً راقيًا.
شاركنا تعليقك من هُنا