سُئِلتُ في إحدى المرات سؤالًا يتعلق بعملي في مجال الكتابة، كان مفاده: هل تعلمت الكتابة أم وُلدت كاتبة بالفطرة؟
ورغم تحفظي الشديد على نعت "كاتبة"، الذي لا أعتد به إطلاقًا، إلا أنني تجاهلت تحفظي هذه المرة، محاولةً إيجاد إجابة لسؤال لم أواجه نفسي به قط. كان أول ما تبادر إلى ذهني أنني وُلدت بأذن تعشق الفصاحة، ميّالة للحديث البليغ، تنبهر بكل شخص مفوّه تتدفق الكلمات منه بسلاسة ووضوح. وأن عملي في مجال الكتابة ما هو إلا نتاج ذلك العشق لسماع اللغة.
فنحن إن عشقنا شيئًا منحناه جلّ وقتنا وأفرطنا في استهلاكه حتى نمتلئ به، والطريقة للنجاة من هلاك تخمته هي أن نفرغه. وهكذا، أنقذت نفسي بالكتابة، وورطتها بالعمل فيها.
قد تبدو الإشارة إلى عملي في الكتابة كـ "ورطة" مبالغة غير مستساغة، لكنني أصفها كذلك لأنها تضعني في مواجهة حقيقية مع نفسي. في كل مرة أكتب، تداهمني أسئلة لا تنتهي: هل ما أكتبه فعّال؟ هل يحمل جدوى حقيقية؟ هل أفكاري أصيلة حقًا، أم أنها مجرد صدى لما قرأت وتأثرت به من أعمال الأدباء والفلاسفة؟ وهذا التساؤل الأخير تحديدًا هو ما يجعلني أتردد في كتابة الكثير من النصوص والمقالات.
غالبية العاملين في المجالات الفنية والإبداعية ما هم إلا هواة وعشّاق، امتلؤوا بأعمال من سبقوهم بالفن، ليكملوا الرحلة في المسار ذاته، منتجين من خلال ذلك الامتلاء أعمالًا وفنونًا مختلفة. ورغم إدراكهم لآلية امتداد الفنون الطبيعية تلك، إلا أنهم يصنفون من ضمن الأشخاص الأكثر عرضة لمشاعر متلازمة المحتال، وهو مفهوم ظهر لأول مرة في السبعينات، يصف شكلاً من أشكال الشك الذاتي يجعل الفرد يعتقد بأنه غير مستحق لنجاحاته، وأن أعماله لا ترقى لأن تكون ضمن مصاف أعمال الفنانين الآخرين. وكل إطراء يتلقاه إزاء أعماله وإنجازاته يصبح هاجسًا بدلًا من كونه دافعًا، لأنه يشعر بأن عمله القادم قد لا يرقى للتوقعات، مما يجعله يخشى أن يُنظر إليه كمن يفتقر إلى المهارة، وأن نجاحاته السابقة قد تُفسر على أنها مجرد ضربة حظ.
متلازمة المحتال تصيب 70% من الأشخاص لكنها تتصدر المشهد لدى الفنانين، وذلك لأن طبيعة العمل الإبداعي غير مستقرة وليست روتينية، فيجد نفسه مضطرًا دائمًا لخوض معركة لإيجاد الأفكار التي تمثله، ووضع بصمته الأصيلة في كل عمل يحمل اسمه. تقول الدكتورة فاليري يونغ، وهي إحدى مؤسسي معهد متلازمة المحتال:
"العمل في أي مجال إبداعي يجعلك أكثر عرضة لمشاعر المحتال... طبيعة العمل الإبداعي تجعل الجميع يشعرون بعدم الكفاءة."
وذلك لأنهم غالبًا ما يُشجعون على استلهام أعمالهم ممن حولهم أو من تجاربهم الشخصية، مما يجعلهم يتساءلون ما إذا كانت النجاحات التي حققتها أعمالهم هي نجاحات نابعة من ذواتهم ومستحقة أم أنها مجرد محاكاة وضربة حظ جعلتهم يحظون بمكانة زائفة. وبالتالي، يجدون صعوبة في تقدير مواهبهم ويتجاهلون الاحتفاء بها.
المفارقة هي أن متلازمة المحتال هي في الحقيقة وقود إبداعي خفي، وذلك ما يجعلها الشعور الطاغي لدى أغلب الطموحين الراغبين في تحقيق إنجاز يُذكر. في كل مرة يشعر فيها الشخص بالشك، تكون هي اللحظة التي يبدأ فيها رحلة البحث عن أفكار جديدة، وأساليب مبتكرة لإثبات ذاته من جديد، وتقديم أفضل ما عنده، وخلق الأصالة المتوقعة من أعماله.
فلو سبق وشككت في مهاراتك أو واقعية قدراتك فلا تركن لشعور أنك محتال وتدعه يثنيك عن العديد من الفرص، بل تعامل معه كوقود ودافع يجعلك تقدم على انتهازها حتى تثبت لنفسك أنك مستحق لكل منجز حققته وستحققه.
شاركنا تعليقك من هُنا