لماذا نخاف من الحياة التي لم نعشها؟
أحيانًا، لا يخيفنا الواقع بقدر ما تخيفنا احتمالاته.
أن تجلس في هدوء تام، وتباغتك فكرة: ماذا لو اخترت طريقًا آخر؟ ليس ندمًا بالضرورة، بل شعور غامض يشبه قلقًا ناعمًا، كأنك تعيش حياتك الحالية وتراقب، في الوقت نفسه، حياة أخرى تمر من جوارك دون أن تراك.
ما الذي يجعلنا نرتجف أمام حياة لم نلمسها؟ ولماذا يصبح اللاواقع ثقيلًا على النفس أحيانًا أكثر من الواقع نفسه؟
الاختيارات المعلّقة على الرف
كل حياة نعيشها هي اختيار، وكل اختيار يلغي آلاف الاحتمالات الأخرى. نحن لا نخاف دائمًا من الطريق الذي سرنا فيه، بل من كل الطرق التي أغلقناها خلفنا. وهذا ما يُعرف في علم النفس الوجودي بـ"قلق الإمكانيات" — ذاك الشعور العالق بين ما هو وبين ما يمكن أن يكون.
في عالم اليوم، حيث الخيارات لا تُعد ولا تُحصى، لا نُعاني من فقر الاحتمالات بل من وفرتها.
الشبكات الاجتماعية، القصص التي تُروى، السير الذاتية، حتى الإعلانات؛ كلها تضع أمامنا احتمالات لحياة "أجمل" أو "أغنى" أو "أكثر سفرًا ونجاحًا"، وتخلق بداخلنا مقارنة مستمرة مع نسخ لم نعشها قط، لكنها تظل تطاردنا.
القلق هنا ليس علامة ضعف، بل انعكاس لوعينا بأن الحياة مؤقتة، وأننا لا نملك إلا فرصة واحدة، بينما تُقدَّم لنا ألف حياة على طبق من الصور والمفردات. إننا نعيش تحت ضغط صامت: أن نختار "الحياة الصحيحة"، مع علمنا أن هذا الخيار لا يُختبر إلا بعد مرور الوقت.
كل لحظة نختار فيها، نحن أيضًا نقتل حياة لم تُعاش. وهذا القتل الصامت يخلّف شيئًا من الحزن الذي لا نعرف له مصدرًا.
حين تصبح الإمكانيات عبئًا
لا يتحدث كثيرون عن هذه الحقيقة: أحيانًا، ما يُثقل كاهلنا ليس ما نعيشه فعليًا، بل ما لم نعيشه.
أن تشعر أنك كان من الممكن أن تكون شخصًا آخر، في مكان آخر، بحياة أخرى، وتبقى هذه "الاحتمالات" تنظر إليك من بعيد وكأنها تتهمك بالتقصير.
هذا القلق غير منطقي في ظاهره، لكنه منطقي تمامًا في داخله. إنه نتاج الحياة الحديثة التي تعلّمنا أن "نحقق ذاتنا" ونكون "أفضل نسخة من أنفسنا"، دون أن تُخبرنا ماذا نفعل بكل النسخ الأخرى التي لم نصل لها.
في دراسة نفسية أُجريت عام 2017 على طلاب جامعيين في كندا، وُجد أن أكثر من 60% يشعرون أحيانًا بأنهم يعيشون حياة "ناقصة"، ليس لأنهم يكرهون واقعهم، بل لأنهم يؤمنون بأنهم قادرون على أكثر، فقط لا يعرفون ما هو هذا "الأكثر". وهنا تكمن المعضلة: أن يُصبح المستقبل فخًا بدل أن يكون أملًا.
كل هذا يؤدي إلى ما يُسمى بـ"قلق الإمكانيات"، والذي يختلف عن الحزن، ويختلف عن الخوف، فهو شعور معلّق لا يمكن الإمساك به، لأنه قائم على غياب، لا على حضور.
الصلح مع الحياة الوحيدة الممكنة
النجاة من هذا القلق لا تأتي بإلغاء الخيارات، بل بالتصالح مع حقيقة أننا لن نعيش كل الحيوات.
الحياة الوحيدة الممكنة هي تلك التي نعيشها الآن، وفيها مساحات كافية للدهشة، حتى لو كانت محدودة.
الفكرة ليست أن نغلق الباب على الإمكانيات، بل أن ندرك أن كل حياة، أيًّا كانت، ستظل ناقصة بطبيعتها.
أحيانًا، نجد في القبول عزاءً أكثر مما نبحث عنه في التغيير. وفي الانغماس العميق في تفصيلة صغيرة من يومك، مساحة لحياة كاملة لا تشبه ما توقعت… لكنها لك. وحدك.
الراحة لا تأتي من عيش كل الحيوات الممكنة، بل من حب الحياة الوحيدة التي عشتها بالفعل.
ولعل التصالح مع الإمكانيات الضائعة ليس هزيمة، بل نضجًا. فأن نكبر لا يعني أن نملك كل شيء، بل أن نعرف ما يكفينا.
ربما لا نحتاج إلى حياة أخرى، بل إلى طريقة أهدأ لننظر بها لحياتنا. أن نراها كما هي، بلا مقارنات، بلا حياة خيالية تسرق منا اللحظة.
مستندين إلى مفهوم "قلق الإمكانيات" الذي ناقشه الفيلسوف الوجودي كيركغارد، وإلى أبحاث نفسية حديثة مثل دراسة جامعة واترلو عام 2017، يمكن فهم أن الإنسان لا يواجه دائمًا فقدًا ماديًا، بل أحيانًا، يفقد ما لم يكن له أصلًا.
شاركنا تعليقك من هُنا