عمق الشهوة وجذور العبودية: الاستهلاك والترفيه والإغواء
في عمق التجربة الإنسانية، تتقاطع ثلاثة محاور نفسية تبدو في ظاهرها متباعدة لكنها تتغذّى من جذرٍ واحد: الاستهلاك، والترفيه، والإغواء.
فالاستهلاك هو حركة الرغبة في صورتها الاقتصادية، والترفيه هو شكلها الجمالي المموّه، أما الإغواء فهو العقل الذي يدير المسرحية من خلف الستار.
وحين تتداخل هذه العناصر، تنشأ منظومة ناعمة من السيطرة؛ تُخاطب الحواس لا العقول، وتُقنع الإنسان بأنه حرّ في اختياره بينما تُوجّهه بدقّة نحو ما يُراد له أن يختار.
فهل أصبح الإنسان الحديث، وهو يلهث خلف الترفيه، مجرّد أداة في يد قوى الاستهلاك التي تصنع رغباته قبل أن يشعر بها؟
حين يتحوّل الترفيه إلى أداة سيطرة مستمرة
يقول جون هيور: «الاستهلاك عجلة لا تتوقف إلا بتحطيمها»، فهو كالإدمان غير المستوعَب، وأبرز من يبرعون فيه هم الشعب الأمريكي.
يتحول الاستهلاك من محطة راحة إلى استهلاك غير مترجم حينما يكون نقطة بداية ونهاية.
الأصل الذي نشأ عليه الترفيه يتمثل في حقيقته بالاستجمام؛ نقطة راحة يتنفس فيها الإنسان الصعداء، يستجمع فيها طاقته ليكمل مشوار الحياة بطاقة متجددة، ومتى تحور الاستهلاك إلى هدف لا نتيجة؛ تبدأ هنا عجلة الضياع، الرغبة في الشعور الرائع بشكل مستمر يدخل الإنسان المستهلك في دوامة لا متناهية.
يُوصف الاستهلاك اليوم بأنه سلاح أيديولوجي؛ فمن خلاله يمكنك السيطرة على من يُضعفك.
فأمريكا مثلًا تستخدم هذا السلاح الناعم بصناعة جميع أنواع الملذّات التي تُسمّى ترفيهًا، وبينما تُمرّن ساعديها الاقتصادي والعسكري، تُغرق العالم الثالث في بحور من هذه الرفاهية، حتى غرق شعبها نفسه في المستنقع ذاته؛ لا يصدقون أعينهم، بل يصدقون ما يُبثّ على شاشاتهم.
طبيعة البشر الميل إلى الراحة، وهي طبيعة تدفعهم إلى ابتكار المزيد من وسائل الرفاهية التي تجعل حياتهم أسهل وأريح، ومتنفسًا من ضغوط الحياة.
لكن، هل يجب أن يكون هذا المتنفّس عديم الفائدة؟
لماذا أصبحت أغلب وسائل الترفيه مصنوعة لتُلهي أكثر مما تُثري؟ وهل الراحة حقًّا منفصلة عن الفائدة؟
يرى جون هيور أن بإمكانك السيطرة على من تشاء عن طريق خلق ترفيه بلا معنى؛ إذ يتحوّل المستهلك إلى مدمَن فاقد الوعي، بينما تُمارَس خلف الكواليس كلّ أنواع التخطيط والسيطرة.
الشعوب الاستهلاكية شعوب لا تُنتج، لأنها منشغلة بما بين أيديها من مسلسلات وألعاب وأفلام تُطرح يوميًا، بينما تُزرع داخل هذه المواد أيديولوجيات رمزية تُمرّر برقة في قالب من التسلية.
استراتيجية الإغواء
لقد كان هملر —اليد اليمنى لهتلر— في الحرب العالمية الثانية، مدركًا لما تقدّمه وسائل الترفيه من تأثيرات فكرية، فسيطر على بثوث الراديو والعروض المسرحية، وغرس فيها أفكارًا معادية أو محرضة، في سبيل تمجيد الرايخ الثالث.
وحين دخل الفرنسيون إلى تونس، أدركوا أن السيطرة لا تكون بالسلاح على شعبٍ مُرهَق بالاحتلال، بل بالترويض الناعم. فاختاروا العبث في وسائل الترفيه والروايات والأغاني والمسرحيات، حتى نُزعت من التونسيين هويتهم الثقافية شيئًا فشيئًا.
نشأت طبقة من “المثقفين” ترى أن الثقافة الحقيقية لا تكون إلا بالنطق بلغة المستعمِر، لأنها اللغة التي تبثّها الإذاعة وتنشرها الصحف.
لقد كانت وسائل الترفيه أخطر من المدافع، إذ عملت على تفكيك القيم من الداخل دون دماء، عبر الغناء والضحك، لا عبر الرصاص.
ومن هنا يتضح أن الترفيه —حين يفقد بوصلة القيم— يتحول إلى أداة اختراق أيديولوجي ناعم يغيّر الوعي دون أن يثير مقاومة.
صراع النفس: بين لذّة الاستهلاك وحرية الوعي
إن الصراع الحقيقي لا يكون فقط بين الشعوب والمستعمر، بل في داخل الإنسان ذاته؛ بين رغباته التي لا تشبع ووعيه الذي يدرك أن الإغراق في الاستهلاك ليس إلا قيدًا ناعمًا.
فالنفس بطبيعتها تميل إلى اللذة الفورية، وتكره الانضباط، وتبرّر كل تجاوز بعبارة “أستحق أن أرتاح”.
لكن حين يتحول الاستهلاك إلى أسلوب حياة، تغدو الراحة عبودية جديدة، وتصبح السلع معيارًا لقيمتنا ومقياسًا لنجاحنا.
فالمعركة مع النفس أعنف من كل حرب، لأنها حرب بلا سلاح ظاهر، وساحتها القلب والعقل معًا.
العلاج: وعيٌ لا يُشترى
النفس أمّارة بالسوء، ولا يُكسر طغيانها إلا بالمخالفة.
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «أكلما اشتهيت اشتريت؟»— وهي عبارة تختصر فلسفة الزهد الواعي، لا الزهد الفقير، زهد من يملك رغبته لا من تُملكه.
فليس المطلوب أن نعيش الحرمان، بل أن نتحرّر من عبودية الرغبة. أن نملك الأشياء لا أن تملكنا.
يكمن العلاج في أن نختار بوعي ما نستهلك، وأن ندرك أن الترفيه الحقيقي ليس ما يُسكِت وعينا، بل ما يُنمّيه ويغذّيه.
حين نمتنع عن إشباع كل نزوة، نعيد للنفس توازنها، وللعقل سيادته، وللروح قيمتها.
وكسر عجلة الاستهلاك لا يكون بتحطيم الأسواق، بل بإحياء الضمائر؛ لأن الوعي هو السلاح الوحيد الذي لا يمكن السيطرة عليه.
إن أخطر أشكال الإغواء ليست ما يُفرَض علينا بالقوة، بل ما نقبله طواعية باسم الحرية.
فمن امتلك وعيه، نجا من الاستهلاك ومن الإغواء معًا
شاركنا تعليك من هنا