جميعنا مررنا بتجربة ليست فريدة إطلاقًا: أن تلتقي بشخص غريب على الإنترنت،
ويحدث بينكما اتصال عاطفي عميق، غير مفسّر، لا يشبه شيئًا آخر.
تجد نفسك منفتحًا، مرتاحًا، وتبوح له بما لا تبوح به لغيره، وكأن بينكما معرفة قديمة، بينما في الحقيقة لا تعرف عنه شيئًا حقيقيًا. تمضيان وقتًا طويلًا، لكنه يبدو أقصر من اللازم — علامة كلاسيكية على الارتياح،
ثم، ينتهي كل شيء.
ويبدأ حوار داخلي لدى الطرفين: أحدكما يقول: "كان الأمر ممتعًا، أتساءل متى سنكرر هذا؟"
والآخر يفكّر: "لن أكرر ذلك مجددًا." وهكذا تولد فجوة التوقعات، ويحدث الأذى — لكليكما.
الحميمية، وإن كانت افتراضية، لا تخلو من المسؤولية. مسؤولية قد لا يدركها كثيرون. فعند القرب العاطفي، نحن — دون أن ننتبه — نتبادل وعودًا صامتة: بالراحة، والثقة، والعفوية… وربما بوعد غير مُعلن بالاستمرارية. هذه الوعود غير المنطوقة، لا تقلّ أهمية عن تلك المعلنة، بل إننا، بتصرفات صغيرة وكلمات عابرة، نبني وعودًا طوال الوقت دون أن نشعر.
وهنا السؤال الذي يصعب الهروب منه: هل تقيّؤ المشاعر، دون توضيح حدود الالتزام،
يعفينا من المسؤولية؟ حتى لو لم يكن التزامًا رومانسيًا، بل إنسانيًا فقط؟
أم أن المسؤولية تبدأ من اللحظة التي تطرق فيها باب أحدهم، ويبوح لك بمكنوناته وأعمق مشاعره،
فتختار أن تمضي… دون أن تغلق الباب خلفك؟
ما يحدث في هذه المساحات العاطفية الرقمية ليس عابرًا كما يبدو،
فرغم أن الطرفين لا يلتقيان وجهًا لوجه، ولا يتواجهان روحًا لروح، إلا أن العلاقة الافتراضية قد تكون أعمق ما يخوضه أحدهما يومًا ما.
تشير نظرية التفاعل الفائق (Hyperpersonal) إلى أن العلاقات عبر الإنترنت قد تنمو بسرعة وعمق يفوق الواقعية. ويعود ذلك إلى قدرة الفرد على اختيار ما يكشفه عن نفسه، والصورة التي يريد تقديمها، مما يخلق انجذابًا نفسيًا قويًا، تغذّيه الصورة المثالية المتبادلة بين الطرفين.
ومع هذا القرب السريع، يولد نوع من الالتزام الضمني — لا يُقال، ولا يُكتب، لكنه يُشعر، وبحسب نظرية التغلغل الاجتماعي (Social Penetration)، فإن الإفصاح المتبادل هو ما يبني العلاقة، لبنةً فوق لبنة. كل مشاركة عاطفية، بغض النظر عن طول الفترة، تُعد خطوة نحو العمق، وكل معلومة شخصية تُشارك، هي تصريح بالتوغل في المساحة الخاصة للآخر.
وهنا يكمن الخلل: كثيرون يتعاملون مع هذا القرب كـ “لحظة”، لكن الطرف الآخر ربما يراه رابطًا، أو بداية، أو وعدًا لاحتمال أكبر. لذلك، فإن إنهاء العلاقة أو التفاعل دون وضوح، أو وعي بحجم ما تم تبادله،
يخلّف فراغًا حقيقيًا، ويترك الطرفين أمام بابٍ مفتوح…
لا يدري أحدهما إن كان خُذل، أم تُرك فقط دون إنذار.
حين يرحل الآخر دون أن يغلق الباب.
شاركنا تعليقك من هُنا