تختلف رؤيتنا لنتاج الحياة باختلاف الشمّاعة التي نعلّق عليها لباسنا من المواقف أو الأقدار. فمن منظور علم الاجتماع، حياتنا هي نتاج للبيئة التي وُجدنا فيها، ومن منظور علم النفس، هي انعكاس لأفكارنا ومشاعرنا الداخلية، أما من منظور الدين، فهي اختبار وابتلاء، وكلّ منظور يلوّن رؤيتنا للحياة بشكل مختلف.
وكما يمكن تحميل المسؤولية لجانب واحد، يمكن أيضًا تقسيمها أو المناصفة فيها، فقد يحمل الموقف بُعدًا دينيًا ونفسيًا واجتماعيًا في آنٍ واحد، فكلّ ما سبق يشكّل مجموعة من الدوائر التي تحيط بالإنسان، ويصعب الجزم بتأثير أيٍّ منها بشكل صافٍ وكامل. ناهيك عن أن البعد الديني لا ينفصل عن أي سبب من الأسباب، فمن أيّ جانب نشأت معاناتك أو مسراتك، فهي بداية قدرٍ تُبْتَلَى به، فإما تكفر أو تشكر.
لكن ما يعنينا هنا هو ما في يدينا، فكما يُقال: “عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة”، فنحن مصدر التفاعل مع المواقف، وقد لا تكون ردّة الفعل مساويةً في المقدار ومعاكسةً في الاتجاه، لكنها في نهاية الأمر تفاعل مع المعطيات، وقد تصل إلى التأثير فيها، لا مجرد التأثر بها.
ونتيجةً لما سبق وتراكمه المعرفي المؤثر فيما سيأتي، ينبغي أن نبتعد لوهلة أو أكثر، ليس فقط للنظر—فقد نظرنا من الداخل بما يكفي—وإنما لنختار كيف للحظة الحاليّة أن تنتقل أو تثبت في المسرّة، وقد قال تعالى: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ (القصص: 77).
لكن ما هو نصيب الدنيا؟ يجيبنا القرآن في مواضع عدة، منها قوله في سورة الكهف: ﴿ٱلۡمَالُ وَٱلۡبَنُونَ زِينَةُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾ (الكهف: 46)، وكذلك: ﴿إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِينَةٗ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَيُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗا﴾ (الكهف: 7)، وأيضًا: ﴿أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ، حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1-2).
صحيح أن الآيات السابقة تنظر إلى زينة الدنيا باحتقار مقابل ثواب الآخرة، وتدعو لترك الانشغال بغير السعي إلى الباقية، لكن في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ﴾، دعوةٌ لعدم نسيان حظّ الدنيا فيما أحلّ الله، دون إسراف، أي بلا إفراط ولا تفريط. وكذلك فإن الإقبال على الله بنفسٍ راضيةٍ بقضائه وقدره من أركان الإيمان.
وقد تطرّقتُ في مقالة سابقة، وهي “الحياة بين الفراغ والمعنى”، إلى أهمية وجود هدف وغاية من سعينا في الدنيا. وما أسعى لإضافته هنا هو إدراج السعادة أو البهجة أو السرور—باختلاف مسمّياتها واتفاقها على زرع السعة في الروح—ضمن هذه الغايات، وليست كسعادة مؤجّلة، بل كخطة نرسمها لإيجاد السعة في حاضرنا. فإن كانت أقدارنا خارجة عن السيطرة، فتعاملنا معها نِتاج قراراتنا التي قد تزيح البهجة عن الطريق.
من هنا ينبثق سؤال مهم: لو كان القرار بهذه السهولة، ما الذي دفعنا لاختيار سواه؟
أما الإجابة، فتعيدنا إلى النقطة الأولى حول اختلاف زاوية الرؤية. وأهم ما في الأمر أن تفاعلاتنا ترتبط بشيء من الألفة مع الفعل، نتيجة للخبرة المتراكمة عبر المعرفة. فمنذ بداية عمر الإنسان، تمنحه الأيام خبرات متتالية، بدءًا من الكلام وما قبله، وصولًا إلى الخطوات وما بعدها.
وطريقنا لتغيير هذا التراكم ينبثق منه مساران، وهما: بناء الغاية والتخطيط لها، ثم—أو قبل ذلك، أو خلاله—تشكيل رؤيتنا الجديدة عن حياتنا، باعتبارها مستحقةً للهناء بأشكاله. أما التخطيط، فله أشكال عدّة، وما أراه هنا يشبه—كما يُقال—“هباء إعادة اختراع العجلة”؛ لذا، قَلِّد واقتبس ما يوافق مبادئك، شاهد العالم كيف يبدو مبتهجًا، واستنسخ منه طريقك، حتى دون أن تعي السبب أحيانًا. فإن فقدان الحياة لروحها كثيرًا ما ينبثق من الصرامة المفرطة تجاه الخطوات
شاركنا تعليقك من هُنا