مع رواج أساليب الدعوة لتحسين جودة عيش الإنسان عن طريق التحفيز والإلهام مؤخرًا، وركون العديد ممن يبحثون عن رغد العيش للاستماع لها، انبثقت من بين تلك المفاهيم العديدة فكرة الشغف، الذي يُعد أحد أبرز هذه المفاهيم وأكثرها تكرارًا. تجد العديد ممن طغت الرتابة على أيامهم وأصبح الروتين سيد حياتهم يتذمرون قائلين: "فقدت الشغف". ولكن، ما هي حقيقة الشغف؟ وهل فعلًا يستحق كل هذا الزخم الهائل من الدعوة للبحث عنه؟
بالنظر إلى شعور الشغف بعيدًا عما يُروج له، سنجد أنه ليس إلا شعورًا لحظيًا ودافعًا مؤقتًا، تكمن أهميته في تحفيزنا على الإقدام. هو تلك الحالة الحماسية التي تروي أرواحنا حين نتعطش للحياة. وما إن يدفعنا الشغف بخيالاته التي يصوّرها لنا تجاه ما كنا شغوفين به، حتى يتسلل الاعتياد ليأخذ زمام الأمور من جديد، وتزيح منغصات الحياة وواقعيتها تلك الصورة المثالية التي لطالما حلمنا بها. فقد تظن عند تقلّدك منصبًا لطالما حلمت به أن الحماس سيملأ أيامك للأبد، وأنك ستصحو كل يوم بشعور متجدد. لكن سرعان ما تغلب مشاعر الاستقرار شعور الشغف، ويعود الروتين مجددًا، فتصاب بالإحباط وتتساءل: هل كان هذا هو شغفي حقًا؟
ولأجيبك على هذا السؤال دعنا ننظر للواقع بعيدًا عن الإيجابية السامة. حالة الشغف هي حالة متذبذبة، ننعم بها أيامًا وتغيب عنا في أيام أخرى. تقديرنا المفرط لها اليوم ما هو إلا نتاج غياب الحاجة، فنحن اليوم مغمورون بالعديد من النعم، لا يشغل بالنا قوت يومنا ولا نحمل هم أماننا وبقائنا. في الماضي، حين كان الإنسان منشغلًا بتأمين أساسيات حياته، كانت مشاعر الشغف لديه تشغل الحد الأدنى من أولوياته، بل وقد تكون أهميتها شبه معدومة. أما اليوم، مع وفرة الموارد وسهولة الحصول على أهم أساسيات الحياة، انشغل الإنسان بالبحث عن الرفاهية في كل أمر من أمور حياته، حتى وصل الأمر لسعيه الدائم خلف الشغف دون النظر لأهمية الالتزام تجاه ما ظن أنه شُغف به.
التقدير المفرط لشعور الشغف اليوم أدى إلى تشوه العديد من المفاهيم، فأصبح شرطًا لأداء المسؤوليات، حتى الكبرى منها. ولا أبالغ بقولي أنه تفشى حتى طال مسؤوليات فطرية وجوهرية كتربية الأبناء. فالبعض اليوم يبحث عن شعور الحماس الذي يدفعه لأداء واجباته تجاه أبنائه وأسرته.
إخراج مفهوم الشغف من حقيقته، التي تقتضي أنه مجرد دافع، وجعله هدفًا بحد ذاته نسعى للبحث الدائم عنه ونبني عليه قراراتنا، هو حكم صريح على أنفسنا بالتشتت والضياع. ومن الجدير بالذكر أن إحدى تأويلات كلمة "شغف" في معجم اللغة تشير إلى أنه الانشغال والقلق (شغف الخبر فلانًا: شغله وأقلقه). وهذا التأويل يجعلنا نتأمل في حقيقة الشغف، فنراه كشرارة أولى تشعل داخلنا حماسة البدء ولذة الاكتشاف، ثم تتبعها أيام وأعوام من القلق والالتزام والشعور بالمسؤولية تجاه اندلاع تلك الشرارة.
تقبل غياب الصورة المثالية للشغف المروج لها حاليًا هو الخطوة الأولى لفهم حقيقته. فإذا غاب عنك الحماس للنهوض من فراشك، ولكنك نهضت قلقًا من عواقب الانصياع لغياب ذلك الحماس، فأنت لا تزال تملك الشغف. الشغف الحقيقي ليس في لحظات الحماسة العابرة، بل في استمراريتك رغم غيابها.
شاركنا تعليقك من هُنا